يحتفل العالم كل عام بيوم الترجمة في 30 من سبتمبر، تقديرًا للدور الريادي الذي تقوم به وظيفة الترجمة والمترجمين في مد الجسور اللغوية والثقافية بين الأفراد والشعوب.
وانطلاقا من الحاجة المتنامية للتواصل عبر الدول والقارات، يتعاظم دور الترجمة إلى ما هو أبعد من نقل لغة إلى لغة أخرى ؛ فقد أصبحت أمرًا بالغ الأهمية للتبادل الثقافي والعلاقات الدبلوماسية ونشر وتعميم العلوم خصوصا ونحن نعيش في غمار عصر التواصل والمعرفة الذي انطلق منذ ثلاثة عقود .
ومع انغمارنا
الكامل في عصر التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي، تتطور آليات وبيئة الترجمة
بسرعة فائقة، مما يؤدي إلى ظهور فرص وتحديات غير مسبوقة. من الترجمة الفورية في
المؤتمرات المحلية والعالمية إلى عملية المثاقفة الشاملة والتحديات الفريدة التي
تواجه الترجمة العربية بالخصوص ، فإن المشهد الراهن للترجمة يبدو أنه بات معقدا أكثر
مما مضى قبل ثلاثة عقود أي قبل ظهور الويب والرقمية والذكاء الاصطناعي.
لقد أحدث ظهور
التكنولوجيا الرقمية ثورة مذهلة في كل المجالات تقريبًا، ولم تكن الترجمة استثناءً
من هذا المنعطف التاريخي الإنساني. فقد ولى العصر الذي كانت تتم فيه الترجمة
بواسطة تقليب صفحات القواميس والمطبوعات الورقية. واليوم، أصبح المترجمون قادرين
على الولوج إلى مجموعة مختلفة من الأدوات التكنولوجية والتطبيقات التي تسهم في تبسيط
أعمالهم ومهامهم، بسرعة ودقة عالية.
لقد أصبحت أنظمة
ذاكرة الترجمة، التي تخزن المقاطع المترجمة سابقًا للرجوع إليها في المستقبل،
عنصرًا أساسيًا في مجموعة أدوات المترجم حيث أنها تساعد في ضمان التنسيق في
الترجمة مع تسريع العملية أيضًا، وخاصة في النصوص الفنية.
ولكن التطور
الأكثر تحولاً في الترجمة هو من دون شك اختراع تطبيقات الذكاء الاصطناعي. فقد جلبت
أنظمة الترجمة الآلية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مثل" ترجمة
جوجل" و"ديبل"
الترجمة في الوقت الفعلي في متناول ملايير الأشخاص. وبفضل الشبكات العصبية
المتطورة وخوارزميات التعلم العميق، تحسنت هذه الأدوات بشكل كبير في السنوات
الأخيرة، وتجاوزت الترجمات الخاطئة في كثير من الأحيان للأنظمة المبكرة إلى توفير
ترجمات دقيقة نسبيًا في العديد من اللغات.
إن أدوات الذكاء
الاصطناعي تستطيع الآن تحليل بنية الجملة وقواعدها النحوية وسياقها، مما يساعد على
توليد ترجمات أكثر دقة وتعبيرية.
وعلى الرغم من
هذه التطورات المذهلة، فإن الترجمة التي تتم باستخدام الذكاء الاصطناعي تبقى بعيدة
كل البعد عن الكمال Perfect. فإذا كان الذكاء الاصطناعي يتفوق في
التعامل مع النصوص المباشرة المستقلة عن السياق، فإنه لا يزال يواجه صعوبات في
التعامل مع المواد الأكثر تعقيدًا، وخاصة تلك المحملة بالإشارات الثقافية أو
التعبيرات الاصطلاحية أو المحتوى العاطفي الدقيق والحساس .
وعلاوة على ذلك،
يفتقر الذكاء الاصطناعي إلى القدرة البشرية على فهم السياق بطريقة شاملة . وإذا
كانت الآلة قادرة على ترجمة الكلمات، فإنها غالبًا ما لا تستطيع فهم السياق
الثقافي أو العاطفي الكامن ما بين السطور. ولهذا السبب، يظل دور المترجمين البشر لا
غنى عنه، وخاصة في نقد الأدب وإبداعاته والوثائق القانونية وغيرها من المجالات حيث
تكون الدقة والحساسية الثقافية في غاية الأهمية.
تعد الترجمة الفورية من أكثر المجالات التي تتطلب مهارات وكفاءات
لغوية محكمة ، وخاصة في المؤتمرات الدولية حيث يكون التواصل متعدد اللغات أمرًا
بالغ الأهمية. وتتضمن الترجمة الفورية سرعة آنية في ترجمة العروض، حيث ينقل
المترجم رسالة الشخص المتدخل إلى لغة أخرى بشكل فوري تقريبًا كلمة بكلمة وبمعنى
بمعنى مطابق له. وتتطلب هذه المهارة تركيزًا هائلاً وفهمًا عميقًا للغتين (المصدر/ والهدف) وقدرة
على التفكير بسرعة تحت ضغط سيرورة خطاب الشخص المحاضر.
لقد كان
للتكنولوجيا الرقمية تأثير عميق على الترجمة الفورية، وخاصة مع ظهور منصات الترجمة
عن بعد حيث تسمح هذه المنصات للمترجمين بالعمل من مواقع بعيدة، باستخدام مصادر
الصوت والفيديو لترجمة الخطاب للجمهور في جميع أنحاء العالم. وقد أدى هذا إلى جعل
المؤتمرات متعددة اللغات أكثر سهولة، حيث لم يعد المترجمون بحاجة إلى التواجد
فعليًا في موقع الحدث. وعلاوة على ذلك، مكنت التكنولوجيا من تطوير أدوات جديدة،
مثل أنظمة الترجمة بمساعدة الذكاء الاصطناعي، والتي يمكن أن تساعد المترجمين من
خلال تقديم ترجمات مقترحة في الوقت الفعلي.
إن استخدام الذكاء
الاصطناعي في مجال الترجمة الفورية لا يزال في بداياته . وإذا كانت بعض المنصات تقدم
ترجمات يتم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي في فضاءات عمومية وأقل رسمية، مثل لقاءات
العمل أو الندوات المباشرة عبر الإنترنت، فإن هذه الأنظمة تكون غير موثوقة بما
يكفي للقاءات ذات المخاطر العالية مثل اللقاءات الدبلوماسية الدولية أو الإجراءات
القانونية. ويظل المترجمون هم المعيار المثالي في هذه السياقات، حيث يمكن أن يؤدي
سوء التفسير الطفيف إلى عواقب وخيمة.
لا يقتصر دور
المترجمين الفوريين على نقل الكلمات بدقة متناهية فحسب، بل يشمل أيضاً التقاط نبرة
صوت المتحدث ونواياه وتوجهاته العاطفية. وربما تتمكن الآلات ذات يوم من المساعدة
في هذه العملية، ولكنها تفتقر في الوقت الحالي إلى الفهم الدقيق للتواصل البشري
الذي يقدمه المترجمون الفوريون. وعلى هذا، فبينما تعمل التكنولوجيا الرقمية على
تعزيز عمل المترجمين الفوريين، فإنها لن تحل محل الحاجة إلى الخبرة البشرية.
الترجمة أيضا لا
تقتصر على مجرد نقل الكلمات من لغة إلى أخرى؛ بل إنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا
بمفهوم المثاقفة، وهي العملية التي يتطلع وتتكيف من خلالها الشعوب مع استيعاب ثقافة
الآخر. فعندما تتم ترجمة نص أدبي أو فلسفي ، وخاصة من ثقافة إلى أخرى، يتعين على
المترجم أن يأخذ في الاعتبار السياق الثقافي الذي تم فيه إنشاء النص المصدر وكيف
سيستقبله الجمهور المتلقي والمستهدف.
وتتجلى هذه
العملية بشكل خاص في الترجمات الأدبية، حيث يتوجب على المترجم إيجاد التوافق بين الوفاء
للنص المصدر والحاجة إلى جعله في متناول الثقافة المستهدفة ومناسبا لها. وقد تفشل
الترجمة الحرفية في نقل المعنى العميق أو الفروق الثقافية الدقيقة المتضمنة في
العمل الأصلي. ومن ناحية أخرى، قد تفشل الترجمة التي تتبنى الكثير من الحرية عن قصدية
الكاتب والمؤلف. ولا تتطلب الترجمة الناجحة الكفاءة اللغوية فحسب، بل تتطلب أيضًا مراعاة
الحساسية الثقافية وفهم الخلفية الاجتماعية والثقافية لكل من الجمهور المصدر
والجمهور المستهدف.
إن عملية المثاقفة
هاته ليست عملية أحادية الاتجاه. فمن خلال الترجمة، يتعرف القراء في الثقافة
المستهدفة على أفكار ووجهات نظر وقيم جديدة. وعلى هذا النحو، تعمل الترجمة كجسر
بين الثقافات، مما يسهل العبور إلى التفاهم المتبادل بين الشعوب. وفي عالم تستمر العولمة
في الهيمنة عليه، أصبح دور الترجمة في المثاقفة أكثر أهمية من أي وقت مضى.
إن الطوفان الهائل
من المعلومات التي يتم إنتاجها اليوم يمثل تحديًا جديدا للمترجمين. ففي العصر
الرقمي، يتم إنتاج المعرفة بمعدلات متسارعة يوميا وغير مسبوقة، كما يتزايد الطلب
على الترجمة بشكل كبير وملح باستمرار. ولتلبية هذا الطلب، أصبحت أدوات الترجمة وآلياتها
التي تعمل بالذكاء الاصطناعي لا غنى عنها، وخاصة ترجمة المحتوى التقني أو المتخصص
للغاية. ويمكن لهذه الأدوات معالجة كميات كبيرة من النصوص بسرعة، مما يجعل من
الممكن للباحثين الوصول إلى المعلومات في الوقت الفعلي.
ولكن إذا كان الذكاء
الاصطناعي يمكن أن يساعد في ترجمة المعلومات الواقعية والتقنية، فإنه يظل أقل
كفاءة في ترجمة المحتوى الأكثر تجريدًا أو تفسيريًا، مثل النصوص الفلسفية أو النقد
والإبداع الأدبي. وفي هذه المجالات، يظل المترجمون البشر ضروريين لضمان الحفاظ على
التفاصيل الدقيقة والتعقيدات المختلفة في بنيات النص الأصلي.
إن شعرية وجماليات
الترجمة ــ التفاعل الدقيق بين المعنى واللغة والشكل ــ تصبح معرضة لخطر التقزيم إلى
مجرد وظيفة في العصر الرقمي. فالأدب، باعتباره شكلاً فنياً غنياً بالاستعارات
والإيقاعات والبعد العاطفي، يتطلب مترجماً بشرا قادراً على الحفاظ على البويتيقا
الأدبية للنص الأصلي. ورغم تحسن أداء أنظمة الذكاء الاصطناعي، فإنها غالبا ما تحدث
بعض التعثرات في التعامل مع هذه العناصر.
إن التحدي الآخر
الذي يواجه الترجمة العربية هو ثراء اللغة نفسها. فاللغة العربية تقوم على قواعد
نحوية معقدة وكنوز مفرداتها الواسعة واستخدامها للاستعارات والتعبيرات المجازية.
وقد يكون من الصعب أحيانا ترجمة هذه العناصر إلى لغة قد لا تحتوي على بنيات أو
تعبيرات مماثلة . بالإضافة إلى ذلك، فإن اللغة العربية لغة تراثية وثقافية عميقة،
حيث تحتوي على العديد من الكلمات والعبارات التي تحمل دلالات مفتوحة ومحددة أيضا.
ويتطلب التقاط هذه الدلالات في الترجمة فهمًا عميقًا لكل من ثقافتي المصدر وثقافة الهدف أي
ثقافة المرسل والمتلقي.
إن اليوم
العالمي للترجمة يذكرنا قبل كل شيء بأهمية المترجمين البشر في عصر التكنولوجيا المعولم
. وسواء كانوا يقومون بالترجمة الفورية في المؤتمرات الدولية، أو يترجمون الأعمال
الأدبية من لغة إلى أخرى، أو يجعلون المعرفة العلمية في متناول القراء من مختلف
المرجعيات، فإنهم ما يزالون يشكلون عنصراً أساسياً في تعزيز التفاهم والتعاون بين
الثقافات. ومع استمرار التقدم التكنولوجي والرقمي ، فإن دور المترجمين البشر سوف
يتطور بلا شك، ولكن أهميتهم في سد الفجوات اللغوية والثقافية سوف تظل حيوية كما
كانت دائماً.
0 التعليقات:
إرسال تعليق