إن التراجع المستمر للجامعات المغربية في التصنيفات العالمية يشكل مصدر قلق ملح يثير تساؤلات حول الأولويات التعليمية للبلاد. وفي حين أن الأسباب معقدة بلا شك، فإن هناك عاملاً حاسماً يبرز في كثير من الأحيان: تهميش الفلسفة باعتبارها حجر الزاوية في التعليم. لقد أدى التهميش المنهجي لهذا التخصص إلى تجريد الأوساط الأكاديمية المغربية من أداة حيوية لتنمية التفكير النقدي والابتكار والتنوع الفكري - وهي الصفات الأساسية للازدهار في مشهد عالمي تنافسي. ومع ذلك، فإن هذا المسار التقهقري لا يعني لا رجعة فيه. ومن خلال تبني الفلسفة كقوة تحويلية، فإن المغرب لديه القدرة على تنشيط مؤسساته الأكاديمية واستعادة دوره التاريخي كمركز للتميز الفكري.
إن تراجع الفلسفة داخل
الأوساط الأكاديمية المغربية يمكن إرجاعه إلى قرارات سياسية أعطت الأولوية للتخصصات
التقنية والموجهة نحو السوق على العلوم الإنسانية. وفي حين تم اتخاذ هذه الخيارات ظاهريًا
لمواءمة التعليم مع الاحتياجات الاقتصادية، إلا أنها خلقت عن غير قصد فراغًا في المهارات
الفكرية النقدية. وأصبحت الفلسفة، التي غالبًا ما يتم رفضها باعتبارها غير عملية، ضحية
لمنهج نفعي متزايد في التعليم. ومع ذلك، فقد تجاهل هذا التحول حقيقة بالغة الأهمية:
إن المجتمعات الأكثر ابتكارًا هي تلك التي توازن بين الخبرة التقنية والقدرة على التفكير
النقدي والإبداعي.
لقد كان المغرب تاريخيا
مهد الفكر الفلسفي، حيث أنتج علماء شكلوا التقاليد الفكرية العالمية. على سبيل المثال،
كانت جامعة القرويين ذات يوم بمثابة منارة للتعلم، حيث ازدهرت الفلسفة جنباً إلى جنب
مع العلم واللاهوت. ومن خلال تهميش هذا التراث، لم يقلل المغرب من مكانته الأكاديمية
فحسب، بل وأضعف أيضاً قدرته على إنتاج قادة قادرين على معالجة التحديات المعقدة التي
يفرضها العالم الحديث.
إن الفلسفة ليست مجرد
تمرين تجريدي في الفكر. بل إنها تخصص يعمل على شحذ التفكير التحليلي، وتشجيع المداولة
الأخلاقية، وتنمية الفضول الفكري. ولا تقتصر هذه المهارات على المساعي الأكاديمية؛
بل إنها أساسية لتشجيع المواطنين المنخرطين والقادة المبدعين. ومن خلال التعامل مع
الأسئلة الفلسفية، يطور الطلاب القدرة على تحدي الافتراضات، وتحليل القضايا المعقدة،
وبناء الحجج المدروسة ــ وهي القدرات التي لا غنى عنها في مجالات متنوعة مثل التكنولوجيا،
والحوكمة، وريادة الأعمال.
فضلاً عن ذلك فإن الطبيعة
المتعددة التخصصات للفلسفة تجعلها محوراً للتعليم الشامل. فهي تسد الفجوة بين العلوم
والعلوم الإنسانية، وتشجع على التوليف بين المعرفة التي تدفع إلى اكتشافات رائدة. والواقع
أن البلدان التي تدرك قيمة الفلسفة ــ مثل فنلندا، التي تدمج الفلسفة في مناهجها التربوية
الوطنية ــ تحتل باستمرار مرتبة متقدمة بين الدول الرائدة في مجال الإبداع والتعليم.
ومن الممكن أن تستفيد المغرب كثيراً من تبني نهج مماثل.
ولاستعادة دور الفلسفة
في الأوساط الأكاديمية والمجتمعية المغربية، لا بد من اعتماد استراتيجية متعددة الأوجه.
وهذا يتطلب إصلاحات جريئة على المستويين المؤسسي والثقافي:
ينبغي إعادة إدراج
الفلسفة كمادة أساسية في جميع مستويات التعليم، من المدرسة الابتدائية إلى الجامعة.
فالتعرض المبكر للتفكير الفلسفي يساعد الطلاب على تطوير مهارات التفكير النقدي والتفكير
الاستجوابي. وعلى مستوى الجامعة، يمكن تصميم دورات الفلسفة بحيث تكمل التخصصات الأخرى،
مثل الهندسة والطب والأعمال، مما يعزز نهجًا أكثر تعددًا للتخصصات في التعلم.
يتعين على الجامعات
أن تكسر الحواجز التي تفصل بين التخصصات الأكاديمية. ويتعين على أقسام الفلسفة أن تتعاون
مع كليات العلوم والقانون والتكنولوجيا لمعالجة المشاكل الواقعية من خلال منظور فلسفي.
على سبيل المثال، تعد الأخلاقيات الحيوية في الطب أو الاعتبارات الأخلاقية في مجال
الذكاء الاصطناعي مجالات لا غنى فيها عن الاستقصاء الفلسفي.
من أجل جذب الفلاسفة
الموهوبين والاعتناء بهم، يتعين على الجامعات المغربية الاستثمار في تنمية أعضاء هيئة
التدريس وخلق الحوافز للبحوث عالية الجودة. ومن الممكن أن يؤدي إنشاء مراكز أبحاث الفلسفة
وتشجيع التعاون الدولي إلى وضع المغرب كمركز للفكر الفلسفي المبتكر.
إن التحول الثقافي
الأوسع نطاقاً، إلى جانب التعليم الرسمي، ضروري لإعادة إشعال الاهتمام بالخطاب الفلسفي.
ومن الممكن أن تعمل المحاضرات العامة والمناظرات والمنشورات المتاحة على إشراك المواطنين
في المناقشات الفلسفية، مما يجعل الفلسفة ذات صلة بالحياة اليومية. ومن الممكن أن تلعب
منصات الإعلام دوراً حاسماً في إزالة الغموض عن هذا التخصص وإبراز تطبيقاته العملية.
إن إعادة دمج الفلسفة
في الإطار التعليمي المغربي من شأنه أن يعود بفوائد تتجاوز بكثير الأوساط الأكاديمية.
فالشعب المطلع على الفلسفة قادر بشكل أفضل على التعامل مع تعقيدات المجتمع الحديث،
من الاضطرابات التكنولوجية إلى الاستقطاب السياسي. ومن خلال تنمية جيل من المفكرين
النقديين، يمكن للمغرب أن يعزز من مشاركة المواطنين ومسؤوليتهم.
وعلى الصعيد الاقتصادي،
قد يؤدي التركيز على الفلسفة والتفكير النقدي إلى تحفيز الإبداع، حيث أصبحت الشركات
تقدر بشكل متزايد الموظفين القادرين على التفكير الإبداعي وحل المشاكل من وجهات نظر
متعددة. وعلى الصعيد السياسي، يصبح المجتمع الذي يقدر البحث الفلسفي أقل عرضة للجمود
وأكثر قدرة على الانخراط في حوار بناء، وهو عامل حاسم في تحقيق الوحدة الوطنية والتقدم.
وعلى الصعيد العالمي،
فإن إعادة الفلسفة إلى مكانتها الصحيحة من شأنها أن تعزز القوة الناعمة للمغرب. والبلاد
لديها الفرصة لتصبح رائدة في الإبداع الفكري والثقافي، وتجتذب العلماء والطلاب من مختلف
أنحاء العالم. ومن خلال الاستثمار في الفلسفة، يمكن للمغرب أن يبرز صورة أمة متقدمة
تقدر تراثها ومستقبلها.
إن التحديات التي تواجه
الأوساط الأكاديمية المغربية كبيرة، ولكنها ليست مستعصية على الحل. ومن خلال الاعتراف
بالقوة التحويلية للفلسفة، يمكن للمغرب أن يرسي الأساس لنظام تعليمي متجدد قادر على
المنافسة عالميا ومتجذر بعمق في تقاليده الفكرية الغنية. وهذا ليس مجرد دعوة لإعادة
النظر في الماضي؛ بل هو دعوة لتصور مستقبل حيث تصبح الجامعات المغربية مرة أخرى منارات
للتعلم والفكر.
إن الفلسفة ليست ترفا
بل ضرورة لأي مجتمع يطمح إلى التقدم. وبالنسبة للمغرب فإن تبني الفلسفة لا يعني تحسين
تصنيف الجامعات فحسب؛ بل إنه يعني إعادة تعريف معنى التعليم والابتكار والقيادة في
القرن الحادي والعشرين. ويبدأ الطريق إلى التجديد بخطوة واحدة: استعادة القوة التحويلية
للاستقصاء الفلسفي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق