الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، نوفمبر 23، 2024

من المحلية إلى العالمية : تأملات في فكر عبد الفتاح كيليطو: عبده حقي


في سن التاسعة والسبعين، يقف عبد الفتاح كيليطو عند مفترق طرق بين الزمن والاعتراف والتقدير.

فهو معروف برفعته الفكرية واستكشافاته الانتقائية، وهو كاتب مغربي شيد لنفسه مكانة خاصة في النقد الأدبي والدراسات وفن السرد القصصي.

من الغوص العميق في الحكايات المعقدة والمتشابكة لألف ليلة وليلة إلى تفسير المغامرات الكوميدية لتانتان، كانت رحلته الأدبية متنوعة وعميقة. ومع ذلك، لم تكتشفه الأضواء العالمية إلا في سنوات كهولته . إن الجوائز التي نالها مؤخرًا وإصدار كتابه الأخير " والله، هذه القصة هي قصتي! " يمثلان فصلاً جديدًا في حياته الإبداعية المختلفة.

على مدى عقود من الزمان، ظل كيليطو شخصية أكاديمية متكتمة بل ربما وغامضة . وبصفته أستاذاً في جامعة محمد الخامس بالرباط، فقد كرس حياته لكشف تعقيدات وإشكاليات الأدب العربي والأدب المقارن. وقد نجحت أعماله باستمرار في سد الفجوات الثقافية، وتقديم وجهات نظر دقيقة حول النصوص في كل من العالم العربي والتقاليد الغربية. وكتب عن اللغة والترجمة والعلاقة بين التقاليد الشفهية والمكتوبة، ورسم خطاً فاصلاً بين الإرث الماضي والفكر المعاصر.

وعلى الرغم من تأثيره الفكري والعلمي، فقد اعتُبِرت أعماله البحثية والإبداعية أعمالاً خاصة ، لا تروق ولا يصلها إلا لأقلية من نخبة المثقفين. وقد حظي بتقدير الدوائر الأكاديمية، ولكن الجمهور الغربي الواسع قد تجاهله إلى حد كبير. وفي حوار أجرته معه مؤخراً الصحفية الإسبانية بيرنا جونزاليس، قال كيليطو: "لم أكن أبداً من هواة الإيماءات الكبرى أو التصريحات الصاخبة. فقد كان عملي لسنوات طويلة بمثابة تمرد هادئ ضد النسيان".

لقد غير العام الماضي حياة كيليطو حيث حصل على ثلاث جوائز كبرى هي : الجائزة الفرنكفونية الكبرى من الأكاديمية الفرنسية، وجائزة الملك فيصل للأدب العربي، ثم الانضمام إلى أكاديمية المملكة المغربية. وتعكس كل من هذه الجوائز والإنجازات جوانب من هويته المتعددة. ومما لاشك فيه أن جائزة الفرانكوفونية هي اعتراف بإسهاماته في الأدب الناطق باللغة الفرنسية، وتحتفي جائزة الملك فيصل بدوره كمهتم بالأدب العربي، وتؤكد على جهوده في إلقاء الضوء على أهميته العالمية. وأخيرًا، فإن مكانته في أكاديمية المغرب هو اعتراف بمساهمته الدائمة في الإرث الثقافي لوطنه.

إن هذه الاعترافات تشير إلى تقاطع التفاخر الوطني والإشادة العالمية. ولكنها تفرض أيضا على كيليطو أيضاً نوعاً جديداً من المسؤولية. فقد قال مازحاً أثناء رحلة قام بها مؤخراً إلى مدريد: "الآن وقد أصبحت مشهوراً، يتعين علي أن أرتدي ملابس أنيقة وأن أتصرف على النحو اللائق وأن أكون دائماً على أهبة الاستعداد". ولكن وراء هذه السخرية الطفيفة تكمن حقيقة أعمق وهي أن الشهرة سلاح ذو حدين. فهي ترفع من شأن المرء وقيمته ولكنها تقيده أيضاً، وتتطلب منه أن يكون على وعي دائم بذاته.

إن أحدث كتاب كيليطو "لا يجب أن أكون على قيد الحياة " هو شهادة على عبقريته التأملية. فعنوانه لوحده يدعو إلى التأمل: هل يوحي بالندم، أم السخرية، أم أنه بيان عميق حول عدم القدرة على التنبؤ بالحياة ؟ إن هذا الكتاب يتحدى التصنيفات البسيطة . فهو عبارة عن مذكرات وأطروحة فلسفية جزئيًا، ويتنقل بين تقاطعات التاريخ الشخصي والذاكرة الجماعية. كما يتأمل الكاتب نشأته في المغرب المحاصر بين التقليد والحداثة، وتطوره الفكري، ولقاءاته مع الاغتراب الثقافي والانتماء.

أحد المحاور الرئيسية للكتاب هي اللغة - قوتها في التعريف والاستبعاد والتحويل. يكتب عن تجربته في النشأة متعدد اللغات، والإبحار عبر الحدود المتسائلة بين العربية والفرنسية، ثم الإنجليزية لاحقًا. ويفحص كيف تشكل اللغة الهوية، سواء على المستوى الشخصي أو السياسي، وكيف تعمل كوسيلة للتواصل والصراع.

يقدم الكتاب أيضًا تأملًا حول الشيخوخة والإرث إذ يعترف بحتمية الموت ولكنه يقاوم فكرة النهاية . بدلاً من ذلك، ينظر إلى سنواته الأخيرة كفترة تجديد، وفرصة لإعادة التعامل مع الأسئلة التي تطارده طوال حياته.

لقد كانت طموحاته الفكرية الانتقائية تميزه عن غيره من الفنانين. إن شغفه بألف ليلة وليلة باعتبارها حجر الزاوية في الأدب العربي ـ وتان تان ـ رمز الثقافة الشعبية الغربية ـ يكشف عن قدرته على خلق توازن بين عوالم متباينة. وبالنسبة له، فإن كلاً منهما يرمز إلى الجاذبية العالمية لرواية القصص. وفي حين تتجذر حكايات شهرزاد في البقاء والخيال، فإن مغامرات تان تان تعكس سعياً حداثياً إلى الاكتشاف والمعنى.

إن هذه الثنائية تعكس رؤية الكاتب الواسعة للعالم. فهو غالبًا ما يتحدث عن الأدب باعتباره حوارًا، ومساحة تلتقي فيها الثقافات وتتحاور. وفي مقالاته، يقارن بين التقاليد الأدبية العربية والغربية، ويتحدى الثنائيات التبسيطية ويدعو إلى فهم أكثر ترابطًا للثقافة العالمية.

ورغم الشهرة التي اكتسبها مؤخراً، فإن كيليطو ظل منغمساً في ذاته إلى حد كبير. وخلال حوار أجرته معه مؤخراً في مدريد الصحفية  ألفارو جارسيا، بدا مستمتعاً بنجاحه أكثر من كونه منبهراً به. وقال: "لم أسع قط إلى الشهرة، بل سعيت إلى الفهم". والواقع أن تواضعه يبدو لافتا للنظر، كما هو الحال مع التزامه بالدقة الفكرية.

إن حياة كيليطو هي دراسة للتناقضات. فهو في الوقت نفسه نتاج لتراثه المغربي ومواطن عالمي، وباحث في النصوص الكلاسيكية وأيضا ناقدا للحداثة. وأعماله متجذرة بعمق في التاريخ ولكنها وثيقة الصلة بالمناقشات المعاصرة حول الهوية والثقافة والعولمة.

ومع دخول مسيرة الحياة إلى نهايتها، تقدم لنا روايته الأخيرة درساً قوياً: قد يأتي التقدير متأخراً، لكن لم يفت بعد الأوان لإحداث تأثير ما . إن رحلته تتحدى فكرة أن الشهرة والنجاح يجب أن يكونا سريعين أو واسعي النطاق ليكونا ذا معنى. وبدلاً من ذلك، توضح حياة كيليطو قيمة الصبر والمثابرة والفضول الفكري.

ومن خلال كتبه ومقالاته وتأملاته، يدعو كاتبنا إلى إعادة النظر في افتراضاتنا حول الأدب واللغة وحدود التبادل الثقافي. إن عمله الأخير يتجاوز حدود الجغرافيا والنوع الأدبي، ويقدم رؤية لعالم حيث تربط بيننا القصص، بدلاً من أن تفرقنا.

في النهاية، لا يعد عبد الفتاح كيليطو مجرد كاتب أو باحث. فهو بمثابة جسر ـ وشهادة على القوة الدائمة للأدب في التنوير والإلهام والتغيير. وبينما أدرك العالم أخيراً عبقريته، فهو سيواصل القيام بما كان يمارسه دائماً: سرد القصص التي لها أهميتها.

0 التعليقات: