منذ السابع من أكتوبر2024، أودت الحرب الدائرة في غزة بحياة عدد لا يحصى من الغزاويين، ودمرت البنية الأساسية الحيوية للقطاع ، وشردت آلاف الأسر. وفي حين أن الخسائر البشرية لا تعد ولاتُحصى، إلا أن هناك مجموعة أخرى عانت في تكتم أثناء توثيق هذه المذبحة الرهيبة : إنهم الصحفيون.
فبتكليفهم بمهمة الشهادة على هذه الفظائع بل الجرائم ، يتعرضون يوميًا للموت والدمار واليأس، ويتحملون آثارًا نفسية عميقة. استنادًا إلى تقارير صحفية حقيقية، وبث تلفزيوني دولي، وتحليلات خبراء،
فما هي الخسائر النفسية
التي يتحملها الصحفيون الذين يغطون الصراع.
لقد خلفت الحرب الدائرة
في غزة، والتي اندلعت في 7 أكتوبر 2024، خسائر بشرية مدمرة وعرضت الصحفيين لصدمة نفسية
غير مسبوقة. فقد تم الإعلان عن مقتل أكثر من 44000 فلسطيني، بما في ذلك عدد كبير من
الأطفال، حتى نوفمبر 2024، إلى جانب التدمير الواسع النطاق للمنازل والبنية التحتية
الأساسية. ويواجه الصحفيون على الأرض ذلك العبء المزدوج المتمثل في توثيق هذه الفظائع
في حين يتصارعون مع ردود أفعالهم العاطفية تجاه العنف. ويؤدي التعرض المستمر للإصابات
المدنية، والأسلاء البشرية المشوهة، وعواقب الغارات الجوية إلى تحديات صحية نفسية شديدة،
بما في ذلك اضطراب ما بعد الصدمة والقلق والإرهاق. وتتفاقم الخسائر النفسية بسبب ارتفاع
خطر الإصابة أو الوفاة - فقد قُتل 137 صحفيًا أثناء هذا الصراع، وأصيب أو اعتُقل العديد
غيرهم. وتسلط التغطية التي تقدمها القنوات الدولية مثل الجزيرة ولجنة حماية الصحفيين
الضوء على الاستهداف المتعمد للعاملين في وسائل الإعلام، مما يؤدي إلى تفاقم ضعفهم.
ولتخفيف هذه الآثار، يتعين على المؤسسات الإعلامية إعطاء الأولوية للتدخلات المتعلقة
بالصحة العقلية والنفسية ، مثل استشارات الصدمات، ودعم الزملاء، والتدريب على التوعية،
وضمان حصول الصحفيين على الرعاية التي يحتاجون إليها لمواصلة عملهم الحيوي وسط فوضى
الحرب.
إن الصحافيين في غزة
يواجهون مهمة شاقة تتمثل في تغطية حرب تتسم بالعنف الشديد. فمن الأحياء التي تعرضت
للقصف إلى المستشفيات التي تكافح من أجل علاج الجرحى، يواجه الصحافيون صوراً مروعة
للمعاناة الإنسانية. فقد بثت وكالات الأنباء الدولية، بما في ذلك الجزيرة وسي إن إن
وبي بي سي، لقطات لأطفال أموات يتم انتشالهم من تحت الأنقاض، وآباء يبكون وهم يحتضنون
أطفالهم القتلى، وجنازات جماعية في جل الدروب. والواقع أن التعرض المتكرر لمثل هذه
المشاهد المروعة يعرض الصحافيين لخطر كبير للإصابة بصدمات نفسية.
لقد تحدث تري ينجست،
المراسل الأجنبي لفوكس نيوز، بصراحة عن الصدمة التي تحملها. ففي أثناء تغطيته للصراع
في غزة، شهد عواقب القصف والمذابح، ووصف مشاهد "الجثث الموزعة في كل مكان".
وقد تركت هذه التجارب انطباعاً مزمنا، حيث اعترف ينجست بأن الروائح الكريهة اليومية،
مثل دخان الشواء، كانت تثير ذكرياته، والتي ربطها بالجثث المحترقة. وهذه الروايات ليست
معزولة. فكثيراً ما يبلغ الصحفيون عن أعراض تشبه اضطراب ما بعد الصدمة، بما في ذلك
الكوابيس والأفكار المزعجة والخدر العاطفي.
إن العبء النفسي الذي
يتحمله الصحفيون يتجاوز الحوادث الفردية. فالتعرض المستمر للمعاناة الواسعة النطاق
يخلق تأثيراً تراكمياً، مما يجعل من الصعب على المراسلين معالجة مشاعرهم. فهم لا يراقبون
الدمار فحسب ــ بل هم في كثير من الأحيان جزء منه. ففي غزة، واجه الصحفيون نفس المخاطر
التي واجهها المدنيون الذين ينقلون أخبارهم، حيث عانوا من الغارات الجوية وانقطاع التيار
الكهربائي والتهديد الدائم بالعنف.
وقد وثقت وسائل الإعلام
المطبوعة القصص الشخصية للمراسلين الذين يعانون من مشاكل في صحتهم العقلية
والنفسية. فقد نشرت صحيفة الجارديان تقريراً عن صحفي وصف فيه عجزه عن تغطية أخبار الأطفال
القتلى والآباء المنهارين والحزينين. وعلى نحو مماثل، سلط تقرير لصحيفة نيويورك تايمز
الضوء على شعور الصحفيين الذين يغطون الحرب بالصراع بشأن دورهم، متسائلاً: "هل
أنا مجرد شاهد، أم أنني متواطئ في المعاناة من خلال مشاركة هذه الصور مع العالم؟"
في حين أن المسؤولية
الأساسية للصحافيين هي تقديم المعلومات، فإن تغطية مناطق الصراع مثل غزة تفرض معضلات
أخلاقية وتحديات عاطفية. ويتساءل العديد من المراسلين عن تأثير عملهم، حيث تفشل صور
الدمار والمعاناة الإنسانية في بعض الأحيان في إلهام عمل عالمي ذي معنى. ويزيد هذا
الشعور بالعبث من توترهم، مما يؤدي إلى مشاعر الإحباط والإصابة الأخلاقية.
خلال الحوارات التلفزيونية،
اعترف بعض الصحفيين بأنهم يشعرون بالذنب إزاء عجزهم المفترض عن بذل المزيد من الجهد
من أجل الضحايا. فهم ممزقون بين الانفصال المهني والتعاطف الإنساني، وهو التوتر الذي
يؤدي إلى تفاقم صراعاتهم في مجال الصحة العقلية. وهذا الدور المزدوج المتمثل في كونهم
مراسلين وشهود متعاطفين يجعلهم عرضة بشكل خاص للضغوط النفسية.
إن العبء الذي يتحمله
الصحفيون في غزة فيما يتعلق بالصحة النفسية يزداد تعقيداً بسبب نقص الموارد. فقد أدت
الحرب إلى تدمير البنية الأساسية للرعاية الصحية في غزة، بما في ذلك خدمات الصحة النفسية.
وتسلط التقارير الصادرة عن منظمة أطباء بلا حدود وبرنامج غزة للصحة النفسية المجتمعية
الضوء على أنه حتى قبل الصراع، كان نظام الصحة النفسية في غزة يعاني من نقص الموارد.
والآن يجد الصحفيون وعمال الإغاثة أنفسهم بلا دعم نفسي أو لا يحصلون عليه على الإطلاق.
بالنسبة للمراسلين
الأجانب، فإن العودة إلى الوطن لن تجلب لهم الراحة دائمًا. فالعديد منهم يكافحون من
أجل إعادة الاندماج في الحياة الطبيعية، ويطاردهم ما شهدوه. ويتجنب البعض مناقشة تجاربهم
خوفًا من أن يُنظر إليهم على أنهم ضعفاء أو غير محترفين. ومع ذلك، فإن قمع هذه المشاعر
يمكن أن يؤدي إلى الإرهاق والقلق والأزمات النفسية الطويلة الأمد.
وقد لاحظ أحد صحافيي
رويترز الذين غطوا الحرب أن التركيز المفرط المطلوب أثناء المهام يمنع الصحافيين في
كثير من الأحيان من معالجة مشاعرهم في الوقت الحقيقي. ولكن بمجرد أن يهدأ الأدرينالين،
يضرب الثقل العاطفي بقوة، ويتجلى ذلك في الأرق والانفعال وحتى تعاطي المخدرات في بعض
الحالات.
إن الصحافيين الذين
يغطون حرب غزة هم في كثير من النواحي ضحايا أيضا أساسيين في الصراع. ورغم أنهم ليسوا
أهدافاً مباشرة، فإن تعرضهم المستمر للموت والدمار والحزن يجعلهم عرضة لـ"الصدمة
غير المباشرة". وقد أظهرت الدراسات التي أجريت على مراسلي الحرب أنهم أكثر عرضة
للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة مقارنة بالصحافيين في مجالات أخرى. ويرجع هذا إلى التركيبة
الفريدة من المخاطر الجسدية والتعرض العاطفي والضغوط المهنية التي يواجهونها.
فضلاً عن ذلك، يواجه
الصحافيون المحليون في غزة تحديات إضافية. فعلى النقيض من المراسلين الأجانب الذين
يستطيعون المغادرة، يظل الصحافيون منغمسين في الصراع. فهم ليسوا شهوداً فحسب، بل يشكلون
أيضاً جزءاً من المجتمع المتضرر. وهذا الدور المزدوج يضاعف من صدمتهم، حيث يختبرون
الحرب على المستويين المهني والشخصي.
إن معالجة أزمة الصحة
العقلية بين الصحفيين تتطلب تغييرًا منهجيًا. يجب على المؤسسات الإخبارية إعطاء الأولوية
للصحة النفسية لموظفيها، وتقديم التدريب على التعامل مع الصدمات النفسية والاستشارات
بعد انتهاء المهمة. بالنسبة للصحفيين المحليين، يجب على المؤسسات الدولية مثل لجنة
حماية الصحفيين ومراسلون بلا حدود تقديم الدعم المالي واللوجستي، بما في ذلك الوصول
إلى موارد الصحة العقلية.
وقد دعا برنامج غزة
للصحة النفسية إلى زيادة التمويل المخصص لخدمات الصحة النفسية في غزة، مؤكداً على الحاجة
إلى تدخلات مجتمعية تشمل الصحفيين. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تساعد الدعوة إلى التوعية
بالصحة النفسية داخل صناعة الإعلام في إزالة وصمة العار المرتبطة بطلب المساعدة، وتشجيع
الصحفيين على إعطاء الأولوية لرفاهيتهم.
لقد أبرزت الحرب في
غزة العبء العاطفي والنفسي الذي تتحمله صحافة الصراع. فمن مشاهدة أهوال لا يمكن تصورها
إلى التعامل مع دورهم المهني في أوقات الأزمات، يواجه الصحفيون مجموعة من التحديات.
وبينما يواصلون لفت انتباه العالم إلى محنة المدنيين في غزة، لا ينبغي لنا أن نتجاهل
صحتهم العقلية. إن الاستثمار في موارد الصحة العقلية وخلق بيئة داعمة للصحفيين ليس
مجرد ضرورة أخلاقية فحسب - بل إنه أمر ضروري لضمان استمرار نزاهة وإنسانية تقارير الحرب.
0 التعليقات:
إرسال تعليق