الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، نوفمبر 23، 2024

قراءة في رواية "أبجدية الصمت" لدلفين مينوي: عبده حقي


رواية دلفين مينوي الأخيرة، الموسومة ب"أبجدية الصمت" ، ليست مجرد قصة، بل هي تأمل مؤثر في تكلفة قول الحقيقة في عالم يزداد قمعًا. تتعمق الرواية، الذي نشرتها دار نوفل/هاشيت أنطوان وترجمها إلى العربية المترجم اللبناني أدونيس سالم، في تعقيدات الحرية والحب والمرونة في مجتمع محفوف بالقمع.

تدور أحداث الرواية في إسطنبول، تركيا، مدينة التناقضات. وتتأرجح الرواية على الخط الفاصل بين احتضان الحريات الحديثة وفرض القيود الخانقة. ومن خلال هذا الإطار، تبتكر مينوي رواية تتجاوز الجغرافيا، لتصبح حكاية عالمية عن المقاومة ضد الطغيان.

تدور أحداث الرواية حول آيلا، وهي أم مكلفة بشرح سبب سجن والدها لابنتها الصغيرة. إنه ليس مجرماً بالمعنى التقليدي، بل هو منشق ـ شخص كانت "جريمته" الوحيدة توقيعه على عريضة تطالب بحماية المدنيين، بغض النظر عن خلفياتهم العرقية. فكيف يمكن للمرء أن يعبر عن مثل هذا الظلم العميق لطفل؟ تختار آيلا البساطة:

"إنه في السجن... السجن هو المكان الذي يُحبس فيه الأشخاص الطيبون... متهمين بأنهم سيئون وممنوعين من المغادرة."

يجسد هذا التفسير الرقيق عبثية القمع مع الحفاظ على براءة الطفل. وهو موضوع متكرر في الرواية: النضال من أجل ترجمة الحقائق المعقدة للظلم النظامي إلى لغة لا تجردنا من الأمل.

وتنسج مينوي، مستفيدة من خبرتها الواسعة كصحافية تغطي الشرق الأوسط، قصصاً شخصية ببراعة مع تيارات سياسية خفية. وتستكشف الرواية حياة أولئك الذين أسكتتهم الدولة، فشقوا طريقهم إلى الحرية بأنفسهم. إنها ليست مجرد قصة عن القمع، بل عن التحدي ــ معارك صامتة خاضت في الظل، حيث تتحول حتى الهمسات إلى أعمال تمرد.

وتتناول الرواية أيضًا العلاقة الحميمة بين الحب والمقاومة. فقصة آيلا وزوجها ترمز إلى صراع أعمق. فحبهما يربطهما بوطنهما الذي يشكل ملاذهما وسجنهما في الوقت نفسه. فالمغادرة تعني البقاء؛ والبقاء يعني القتال. وهذه المفارقة تحدد وجودهما، فضلاً عن وجود عدد لا يحصى من الآخرين الذين يجرؤون على تحدي الأنظمة الاستبدادية.

من خلال رحلة آيلا، تعالج مينوي سؤالاً جوهرياً: كيف يحافظ الأفراد على إنسانيتهم ​​عندما يسعى العالم من حولهم إلى نزعها منهم؟ تكمن الإجابة في أفعال صغيرة من الشجاعة ــ كتابة الرسائل، والهمس بكلمات محظورة، والحب بشراسة في مواجهة اليأس.

لا تخدم إسطنبول كخلفية فحسب؛ بل إنها شخصية بحد ذاتها. فهي بوتقة تنصهر فيها الثقافات والتاريخ والأيديولوجيات، وتعكس التناقضات التي يواجهها سكانها. وفي حين توفر المدينة شعوراً باللجوء، فإنها تفرض أيضاً قيوداً، حيث تُحظر التجمعات العامة وتُقمع المعارضة بشكل منهجي.

ترسم الكاتبة مينوي صورة حية لمدينة تعج بالقصص المسكوت عنها. تتحول شوارعها ومقاهيها وزواياها الخفية إلى ساحات حيث تدور معارك من أجل الحرية بهدوء. يعمل هذا الإطار على تضخيم التوتر بين المرئي وغير المرئي، والمحكي وغير المنطوق.

ومن بين العناصر الأكثر لفتاً للانتباه في الرواية استكشافها لديناميكيات القوة بين الأنظمة الاستبدادية ومواطنيها. وتنتقد مينوي محاولات الدولة لقمع المعارضة بالقوة، وتسلط الضوء على عبثية مثل هذه الجهود. ففي حين قد تتمكن الحكومات من إسكات الأصوات، فإنها لا تستطيع إخماد الأفكار والأحلام التي تغذي المقاومة.

يتردد صدى هذا الموضوع بعمق في عالم اليوم، حيث غالبًا ما يُقابَل قمع الحرية بأشكال مبتكرة من الاحتجاج. من الحركات الفنية السرية إلى الاتصالات المشفرة، يجد المضطهدون طرقًا لإيصال أصواتهم. تجسد شخصيات مينوي هذه المرونة، مما يدل على أن الصمت يمكن أن يكون بنفس قوة الكلام.

إن الكاتبة دلفين مينوي نفسها ليست غريبة على المواضيع التي تستكشفها في روايتها. وبصفتها صحفية من أصل إيراني، فقد أمضت عقودًا من الزمن في توثيق قصص من بعض أكثر المناطق تقلبًا في العالم، بما في ذلك إيران وبيروت والقاهرة. وهي الآن مقيمة في إسطنبول كمراسلة لصحيفة لو فيجارو الفرنسية، وتواصل إعطاء صوت لمن تم إسكاتهم. وقد تُرجمت أعمالها الواسعة النطاق إلى أكثر من ثلاثين لغة، مما أكسبها شهرة دولية.

في رواية "أبجدية الصمت" ، تستقي مينوي من تجاربها المعاشة لخلق رواية تبدو شخصية للغاية وذات صلة عالمية. والرواية ليست مجرد شهادة على براعتها الأدبية، بل إنها أيضًا شهادة على التزامها بإلقاء الضوء على نضالات أولئك الذين يعيشون في ظل أنظمة قمعية.

إن "أبجدية الصمت" ليست مجرد رواية، بل هي دعوة إلى العمل. فهي تدعو القراء إلى التفكير في تكلفة الحرية والتضحيات التي يبذلها أولئك الذين يقاتلون من أجلها. ومن خلال قصة آيلا، تذكرنا مينوي أنه حتى في أحلك الأوقات، يظل الأمل قائماً.

إن هذا الاستكشاف التحليلي العميق لعمل مينوي يؤكد على أهميته في عالم حيث تستمر المعركة من أجل الحرية. تتحدى الرواية أن نستمع إلى المعارك الصامتة التي تدور حولنا وأن ندرك الشجاعة اللازمة لمقاومة القمع. وبذلك، تترك علامة لا تمحى على القارئ، وتحثنا على الوقوف في تضامن مع أولئك الذين يجرؤون على الحلم بعالم أكثر حرية وعدالة.

في كتاب "أبجدية الصمت" ، نجحت دلفين مينوي في صياغة قصة مؤثرة وملهمة في نفس الوقت، وهي شهادة قوية على مرونة الروح البشرية.

0 التعليقات: