في خطوة مفاجئة ومثيرة للجدال، أصدرت الجزائر مؤخرًا عفوًا رئاسيًا عن أفراد وصفتهم السلطات بالمشاركين في جرائم النظام العام. وقد استحوذت هذه المبادرة على الرأي العام، حيث اعتبرها البعض خطوة حقيقية نحو المصالحة والإصلاح، في حين رفضها آخرون باعتبارها حيلة محسوبة بدقة لقمع المعارضة.
إن العفو، الذي شمل 2471 فردًا يتزامن مع اضطرابات إقليمية ومحلية على أوسع نطاقً، مما يثير تساؤلات بالغة الأهمية حول توقيته ونواياه المبيتة وتداعياته المحتملة على المشهد الاجتماعي والسياسي في الجزائر.
يأتي الإعلان في لحظة
محورية، تتسم بارتفاع التوتر السياسي والاضطرابات المجتمعية. وعلى الصعيد الدولي، يأتي
في أعقاب السقوط الدرامي لنظام بشار الأسد في سوريا، وهو الحدث الذي أرسل موجة من
التحذيرات بعض أقطار العالم العربي. وعلى الصعيد المحلي، لا تزال الجزائر تقاوم الهزات
الارتدادية للحراك الشعبي ــ حملة احتجاج شعبية بدأت في عام 2019 وأدت إلى الإطاحة
بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي حكم البلاد لثلاثة عقود . وبالتالي، لابد من فهم
العفو في إطار هذه الشبكة المعقدة من الضغوط والتحديات المحلية والإقليمية .
من السمات اللافتة
للنظر في العفو غموض أهدافه. ففي حين تزعم السلطات أنه يفيد أكثر من 2400 فرد، بما
في ذلك أولئك الذين ليسوا مسجونين حاليا، تظل أسماء معظم المستفيدين غير معلنة. ويغذي
هذا الافتقار إلى الشفافية الشكوك حول دوافع السلطات العسكرية . ومن الأمثلة البارزة
قضية بوعلام صنصال، الكاتب الجزائري ذي الجنسية الفرنسية والناقد الصريح للنظام، الذي
لا يزال إدراجه في العفو غير مؤكد. ويجسد احتجازه بتهم تتعلق بأمن الدولة والوحدة الوطنية
وانتقاد حملة القمع المستمرة ضد المعارضة في الجزائر.
تعكس ردود الفعل العامة
على هذا العفو المشهد السياسي المنقسم . ويفسره المؤيدون على أنه التفاتة حسن نية وبداية لإصلاح سياسي جوهري. على سبيل المثال،
يرى المحامي البارز فاروق قسنطيني أن هذه المبادرة عبارة عن ممارسة دستورية للسلطات
الرئاسية تهدف إلى تعزيز الحوار الوطني. وفي رأيه، يمكن أن يمهد العفو الطريق لعملية
مصالحة على أوسع نطاق، والتي قد تتوج بمناقشات مفتوحة بين السلطة وقوى المعارضة.
ومع ذلك، يرى المنتقدون
أن هذه الخطوة رمزية جاءت لتكتيكات البقاء التي ينتهجها النظام. فمن خلال إطلاق سراح
بعض السجناء مع الاستمرار في احتجاز آخرين، يبدو أن السلطة أرادت أن تحقق توازنا دقيقا:
استرضاء المراقبين الدوليين والمعتدلين المحليين دون تخفيف قبضتها على السلطة. ويذكرنا
هذا المنهج المزدوج باستجابة النظام لاحتجاجات الحراك، حيث كانت التنازلات مصحوبة في
كثير من الأحيان بموجات جديدة من القمع. وكما يشير الناشط الجزائري زكريا حناش، فإن
العفو يتزامن مع اعتقالات جديدة، مما يقوض مزاعم الإصلاح الحقيقي.
لقد أصبحت منصات التواصل
الاجتماعي ساحة معركة للخطابات المتنافسة حول العفو حيث يعكس هاشتاج "مانيش راضي"
("أنا غير راضٍ") استياءً واسع النطاق من تعامل السلطة مع المعارضة السياسية،
في حين يسعى هاشتاج المؤيد للحكومة "أنا مع بلادي" إلى حشد الدعم لتعزيز
النظام. وتؤكد هذه الحملات الرقمية على وعي السلطة الحاد بقوة وسائل التواصل الاجتماعي
في حشد الرأي العام - وهو الدرس الذي استفادت منه خلال احتجاجات الحراك.
إن تصريحات الرئيس
عبد المجيد تبون خلال اجتماع حكومي عقد مؤخرًا تعكس عن الموقف الدفاعي للنظام. وقد
رفض تبون تأثير الهاشتاجات، وأكد أن حكومة الجزائر تخدم شعبها، وليس العكس. ومع ذلك،
يبدو هذا الخطاب أجوفًا بالنسبة للكثيرين، نظرًا لاستمرار القوانين التي تخنق حرية
التعبير والاعتقالات المستمرة للناشطين.
إن العفو الرئاسي ليس
بالأمر غير المسبوق في الجزائر. فمن الناحية التاريخية، كانت مثل هذه التدابير تستخدم
للاحتفال بالمناسبات الوطنية أو الدينية، مثل عيد الاستقلال أو شهر رمضان. ولكن توقيت
هذا العفو ــ الذي صدر في نهاية هذا العام ــ غير عادي ويشير من دون شك إلى بعد استراتيجي.
ومن خلال ربط العفو بالتطورات الإقليمية والدعوات الداخلية إلى الانفتاح السياسي، ربما
تحاول السلطة إظهار نفسها في صورة الاستجابة والقدرة على التكيف.
ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية
تنطوي على مخاطر جمة. إذ تواصل منظمة العفو الدولية توثيق اعتقال أكثر من 200 ناشط
في الجزائر، الأمر الذي يقوض مزاعم النظام بالإصلاح التقدمي. وعلاوة على ذلك، فإن اللعبة
اللولبية للاعتقالات والعفو تخلق شعوراً بالركود بدلاً من التقدم. وكما يلاحظ حناش،
فقد ظل عدد المعتقلين ثابتاً نسبياً، ويتأرجح بين 400 و680 على الرغم من تدابير العفو
المتكررة. ويشير هذا النمط إلى أن السلطة أكثر اهتماماً بإدارة المعارضة من معالجة
أسبابها الجذرية.
ولكي تتمكن الجزائر
من تجاوز هذه اللعبة من القمع والتنازل، يتعين عليها الشروع في عملية حقيقية للحوار
الوطني. وهذا يتطلب أكثر من مجرد إيماءات رمزية مثل العفو الرئاسي؛ فالشعب يطالب بإصلاحات
منهجية لتعزيز الشفافية السياسية وحماية حرية التعبير والقطع مع الحكم الشمولي
العسكري. وقد يوفر خطاب تبون القادم أمام البرلمان فرصة لتوضيح مثل هذه الرؤية، لكن
التوقعات تظل حذرة بسبب سجل النظام.
إن المخاطر القادمة
عالية. لا يزال الشباب الجزائري، الذي لعب دورًا محوريًا في حركة الحراك، محبطين من
المؤسسة العسكرية الحاكمة. وتتفاقم إحباطاتهم بسبب التحديات الاقتصادية، بما في ذلك
ارتفاع معدلات البطالة والتضخم. وبدون إصلاحات حقيقية وذات مغزى، يخاطر النظام بتنفير
هذه التركيبة السكانية الحاسمة وإعادة إشعال الاحتجاجات الجماهيرية من جديد .
يجسد العفو الرئاسي
في الجزائر التوترات والتناقضات التي تحدد لحظتها السياسية الحالية. في حين يرى البعض
أن العفو يمثل خطوة نحو المصالحة، يرى آخرون أنه خطوة مدروسة لنزع فتيل المعارضة دون
معالجة المظالم الأساسية. ويتوقف المسار إلى الأمام على استعداد النظام للانخراط في
حوار وإصلاح حقيقيين. وكما أظهر التاريخ، فمن غير المرجح أن ترضي التدابير السطحية
شعباً أثبت مراراً وتكراراً قدرته على العمل الجماعي. ويبقى أن نرى ما إذا كان العفو
يمثل بداية فصل جديد أم مجرد استمرار للأنماط القديمة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق