الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، يناير 01، 2025

الجغرافيا السياسية والمثقف المنشق الجزائر نموذجا : عبده حقي


في مشهد جيوسياسي متوتر على نحو متزايد، اتخذ الصراع بين الجزائر وفرنسا منعطفًا أدبيًا، مما ألقى ضوءًا ساطعا على حرية التعبير والمظالم التاريخية والمساءلة السياسية. إن الهجوم الخطابي الأخير للرئيس عبد المجيد تبون على الكاتب الجزائري الفرنسي بوعلام صنصال، واصفًا إياه بـ "اللص" ومشككًا في هويته وشرعيته البيولوجية، لا يؤكد فقط على هشاشة المناخ السياسي في الجزائر ولكن أيضًا على الهلوسة الدائمة للتاريخ الاستعماري.

في قلب هذا الجدل يكمن تصريح الكاتب بوعلام صنصال المثير للجدال - والذي أعاد إلى الواجهة المناقشات التاريخية بأن أجزاء من الجزائر الحالية تم الاستيلاء عليها من الأراضي المغربية الشرقية أثناء الحكم الاستعماري الفرنسي. لقد أعادت هذه التصريحات، التي قدمتها صحيفة لوموند الفرنسية، إشعال التوترات الكامنة ليس فقط بين الجزائر والمغرب ولكن أيضًا داخل التركيبة السيكولوجية السياسية الجزائرية نفسها. لقد جذب الرد العنيف من جانب الدولة لتصريحات صنصال، والذي بلغ ذروته باعتقاله في 16 نوفمبر في مطار هواري بومدين الدولي، اهتمامًا عالميًا، وخاصة من طرف فرنسا، باعتبار الكاتب صناصل يتمتع بالجنسية المزدوجة الفرنسية والجزائرية .

لقد خلف إعادة رسم الحدود الكولونيالية من قبل فرنسا، وهي سياسة ارتكزت على ضرورات استراتيجية وليس الحقائق العرقية التاريخية، ندوبًا دائمة حيث يزعم علماء مثل بنيامين ستورا، في أعماله الرائدة حول العلاقات الفرنسية الجزائرية، أن هذه الحدود الاصطناعية أصبحت خطوط حمراء للصراعات المستقبلية. إن النزاعات الإقليمية بين الجزائر والمغرب، وأبرزها حرب الرمال عام 1963، توضح العواقب المتبقية لرسم الخرائط الكولونيالية. إن تصريحات صنصال تمس عصبًا حساسًا في المجتمع الجزائري، حيث ترتبط سلامة الأراضي ارتباطًا وثيقًا بالهوية الوطنية والسيادة بعد الاستعمار.

إن خطاب تبون، على الرغم من كونه مثيرًا للجدال، يرمز إلى اتجاه أوسع في الخطاب السياسي الجزائري. فمن خلال تأطير تصريحات صنصال باعتبارها خيانة - حتى التصريح بالهجمات الشخصية على هويته - تسعى القيادة الجزائرية إلى نزع الشرعية عن المعارضة مع تعزيز أوراق اعتمادها القومية. إن هذا التكتيك، كما لاحظ المؤرخ فرانز فانون في كتابه "معذبو الأرض"، هو السمة المميزة للأنظمة ما بعد الكولونيالية التي تناضل ضد الانقسامات الداخلية والضغوط الخارجية.

يحتل بوعلام صنصال مكانة فريدة ومحفوفة بالمخاطر في قلب هذه الدراما. لقد بنى هذا الموظف الحكومي الجزائري السابق الذي تحول إلى كاتب روائي، سمعة طيبة في انتقاداته الثاقبة للاستبداد والتطرف. وقد حظيت أعماله، بما في ذلك "المجاهد الألماني" و"2084: نهاية العالم"، بإشادة دولية في حين أثارت غضب المؤسسة السياسية في الجزائر. إن آراءه العلمانية والليبرالية، إلى جانب انتقاداته اللاذعة للتطرف الإسلامي، تجعله على خلاف مع النخبة الحاكمة في الجزائر، التي غالبًا ما تستخدم الخطاب القومي والديني لتعزيز سلطتها.

إن التهم الموجهة إلى الكاتب، والتي تستند إلى قوانين مكافحة الإرهاب ، تكشف عن استراتيجية الدولة لقمع المعارضة. فالمادة 87 مكرر، التي يُقال إن صنصال معتقل بموجبها، تُعرّف الإرهاب بمصطلحات عمومية تشمل السلوكات التي تعتبر ضارة بالوحدة الوطنية أو الاستقرار المؤسسي. ولطالما ندد المنتقدون، بما في ذلك منظمات حقوق الإنسان الدولية، بهذا القانون باعتباره أداة لإسكات المعارضين السياسيين والأصوات المستقلة.

إن اعتقال كاتب يحمل جنسية مزدوجة يوقع فرنسا حتما في الشؤون الداخلية للجزائر. إن إدانة وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو لاحتجاز صنصال باعتباره "غير مبرر وغير مقبول" تعكس التوترات العميقة بين البلدين. وفي حين يظل الإرث الاستعماري الفرنسي في الجزائر موضوعا حساسا، فقد شهدت السنوات الأخيرة جهودا - وإن كانت غير متكافئة - لمعالجة الاتهامات التاريخية. وقد قوبلت مبادرات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بما في ذلك اعترافه بالفظائع التي ارتكبت في الحقبة الكولونيالية، بردود فعل متباينة في الجزائر، حيث تظل المشاعر المعادية لفرنسا قوة سياسية فعّالة.

وبالتالي تصبح قضية صنصال نموذجا مصغرًا لهذه الديناميكيات الكبرى. وبالنسبة لفرنسا، فإن الدفاع عن صنصال يُنظر إليه باعتباره تدخلا استعماريا جديدا، في حين يمكن تفسير الصمت على أنه تواطؤ في قمع الجزائر للمعارضة. إن هذا التوازن الدقيق يؤكد على تعقيدات العلاقات الفرنسية الجزائرية، حيث تتعارض الجروح التاريخية والمصالح المعاصرة في كثير من الأحيان.

وبعيداً عن تداعياتها السياسية المباشرة، تثير قضية الكاتب بوعلام صنصال أسئلة ملحة حول حالة الحرية الفكرية في الجزائر. ففي دولة حيث غالباً ما تخفي الاستبداد نفسها وراء لغة الأمن القومي، فإن قمع الكتاب والفنانين يشير إلى هجوم واسع وشامل على الحريات المدنية. وكما قال الفيلسوف إدوارد سعيد في كتابه "تمثيلات المثقف"، فإن دور المثقف هو تحدي السلطة، حتى مع المخاطرة الشخصية الكبيرة. وتجسد محنة صنصال هذا الصراع، ويسلط الضوء على الموقف الهش للمثقفين الذين يجرؤون على انتقاد أنظمة السلطة الراسخة.

إن المجتمع الدولي، وخاصة الدوائر الأدبية والأكاديمية، لديه دور حيوي ليلعبه في الدفاع عن هذا الكاتب وغيره من أمثاله. فالمبادرات مثل مناصرة الكتاب المسجونين من قِبَل منظمة القلم الدولية توفر منصة بالغة الأهمية لرفع مستوى الوعي وممارسة الضغوط على الأنظمة القمعية. ومع ذلك، فإن العمل المستدام يتطلب أكثر من مجرد إيماءات رمزية؛ فهو يتطلب جهداً متضافراً لربط حالات مثل قضية صنصال بحملات أوسع نطاقاً من أجل حقوق الإنسان والإصلاح الديمقراطي.

إن المواجهة المتصاعدة بين القيادة الجزائرية والكاتب بوعلام صنصال لا تعكس فقط العداوات الشخصية والحسابات السياسية في الوقت الراهن، بل وأيضاً القضايا البنيوية الأعمق التي تواجه المجتمع الجزائري. إن الاستجابة القاسية من قِبَل الدولة للمعارضة الفكرية، والتي تتلخص في لغة الأمن القومي، تكشف عن عدم رغبة مقلقة في التعامل مع الأصوات الناقدة. وفي الوقت نفسه، يسلط رد الفعل الدولي ــ وخاصة من فرنسا ــ الضوء على التعقيدات الدائمة للعلاقات ما بعد الكولونيالية.

وبينما تبحر الجزائر في تحدياتها السياسية والاجتماعية، تعمل قضية صنصال كتذكير صارخ بأهمية حماية حرية التعبير. وعلى حد تعبير ألبير كامو، وهو كاتب ولد في الجزائر: "إن الصحافة الحرة قد تكون جيدة أو سيئة بطبيعة الحال، ولكن من المؤكد أنها لن تكون أبداً في غياب الحرية سوى سيئة". ويمكننا أن نقول الشيء نفسه عن المجتمعات التي تقمع مفكريها: فهي تخاطر بأن تصبح ظلالاً لإمكاناتها، عاجزة عن مواجهة ماضيها أو رسم مسار لمستقبلها.

0 التعليقات: