في ظهوره الإعلامي الأخير على قناة الصحفي حميد المهداوي، عاد الوزير الأسبق بنسالم حميش إلى واجهة الجدل، لا كروائي أو مثقف يتأمل تحولات الثقافة المغربية، بل كسياسي سابق يطرح آراء حادة، ويطلق أحكامًا مطلقة دون توثيق، ويتنقل بين المواضيع كما لو أنه يسرد سيرته الذاتية أكثر مما يحلل واقعًا أو يناقش فكرة.
ليس جديدًا أن يثير حميش الانقسام في الأوساط الثقافية، لكن ظهوره الأخير لم يضف أي قيمة فكرية أو تحليلية تليق بمكانته الأكاديمية السابقة، بل كشف عن ميل متزايد نحو الخطاب المتشنج، ونزوع نحو تصفية الحسابات، مما جعل الحوار أقرب إلى منبر للتبرير والاستعراض، لا إلى مساحة للنقد الجاد والمساءلة البناءة.
ما يلفت الانتباه في كلام حميش هو اعتماده على العاطفة أكثر من العقل، إذ لا يكاد يطرح رأيًا دون أن يلفّه بشحنة وجدانية زائدة، أو تعبيرات توحي بالمظلومية أو الانتصار الذاتي. وهو بذلك يجنح إلى خطاب شعبوي لا يليق بمثقف يُفترض فيه التروي والحكمة، خاصة حين يتعلق الأمر بالشأن العام. غابت في كلامه الأرقام، وغاب التحليل الرصين الذي يزن المعطيات والوقائع، وحضرت بدلًا عنه العبارات المطلقة والاتهامات المرسلة.
حين يتحدث حميش عن "الاختراق" أو "التحكم" أو حتى عن من يسميهم "خصوم المشروع الثقافي"، فإنه لا يقدم للمتلقي ما يسند به أقواله من وثائق أو شهادات مستقلة أو وقائع قابلة للتحقق. فيبدو حديثه كما لو أنه شكاية شخصية متأخرة أكثر من كونه تحليلًا لمجريات السياسة الثقافية في البلاد. هذا الفراغ الحجاجي يُضعف خطابه ويجعله عرضة للتشكيك، حتى لدى من يوافقونه مبدئيًا.
لم يُبدِ الوزير السابق استعدادًا حقيقيًا لمساءلة تجربته الوزارية، بل لجأ إلى تبريرات سطحية تحيل المسؤولية إلى "الآخرين"، دون أن يتطرق إلى الفشل المؤسسي الذي طبع وزارة الثقافة في عهده، والذي أجمع عليه عدد من الفاعلين في الحقل الثقافي. بل الأدهى من ذلك، أن حديثه عن "النخب المتآمرة" و"الضغوط الخفية" يكرّس نظرية المؤامرة بدل تشجيع النقاش العمومي حول السياسات الثقافية ومسؤولياتها التاريخية.
انتقائية حميش في عرض الوقائع توحي بأنه لا يملك استعدادًا حقيقيًا للإنصات إلى الآخر أو الاعتراف بأخطائه. وهو ما تجلى في طريقة تهكمه على بعض المثقفين، وتجاهله التام لمواقف شخصيات ثقافية عارضته في حينه، لكن من منطلق نقدي مشروع لا شخصي. هكذا يغدو الوزير الأسبق صوتًا منفردًا لا يقبل التعدد، ويستعيض عن الحوار بالتقريع، وعن الجدل بالأحكام الجاهزة.
مقارنة بسيطة بين بنسالم حميش والوزيرة الراحلة ثريا جبران، التي كانت نموذجًا للتواضع والانفتاح على جميع أطياف المشهد الثقافي، تكشف بجلاء الفارق بين وزير يرى في المنصب سلطة فوقية ووسيلة للتنظير، وآخر يرى في الثقافة مسؤولية أخلاقية ورحبة. فثريا جبران، رغم كونها فنانة مسرحية ولم تكن أكاديمية أو كاتبة تنظيرية، استطاعت أن تترك أثرًا طيبًا لدى المثقفين، بما في ذلك مبادراتها الإنسانية وتقديرها للمواهب الصاعدة.
وكمثال شخصي يعبّر عن هذا التباين، أذكر أنني أهديت ثريا جبران مجموعتي القصصية الأولى سنة 2008 فبادلتني ذلك برسالة شكر أنيقة أحتفظ بها إلى اليوم، بينما حين أرسلت روايتي "زمن العودة إلى واحة الأسياد" إلى بنسالم حميش سنة 2010، لم أتلقّ منه حتى إشعارًا بالاستلام، فضلًا عن ردّ.
بنسالم حميش، الأكاديمي والمثقف والروائي، كان يمكن أن يكون مرجعًا في النقاش العمومي، لو اختار خطاب التواضع، واحتكم إلى التوثيق، وتخلى عن نبرة الاستعلاء. لكن حميش السياسي، في صورته الأخيرة، لم يكن سوى مرآة لمثقف أضاع فرصة التجديد، وأصر على استنساخ خطاب قديم في زمن يحتاج إلى عقل جديد.
0 التعليقات:
إرسال تعليق