في لحظة ما، وأنا أتنقل بين تقارير "هيومن رايتس ووتش" وخلاصات مواقع الأخبار الرقمية، تساءلت: هل بات الصحفي الرقمي اليوم هو آخر حارس في بوابة الحقيقة؟ وهل يمكن للصحافة الرقمية، بكل ما تحمله من سرعة وفوضى، أن تؤدي دورًا حقيقيًا في الدفاع عن كرامة الإنسان، كما كانت تفعل الصحف الورقية في زمن آخر؟ أسئلة لا تكفّ عن ملاحقتي كلما قرأت عن انتهاكٍ جديد أو شاهدت فيديو يوثق ما تم حذفه عمداً من نشرات الأخبار التقليدية.
الصحافة الرقمية لم
تعد ترفاً أو امتدادًا للصحف، بل أصبحت بنية مستقلة تتقاطع مع العمل الحقوقي في أشكال
متعددة، وتغدو أحياناً صوته الموازي، وأحيانًا الأخرى ساحة مفتوحة للصراع. وأنا كمغربي،
أتابع يوميًا قضايا حقوق الإنسان في بلدي والمنطقة المغاربية، أجد أن المنصات الرقمية
ـ رغم هشاشتها أحياناً ـ هي التي تجرؤ على كسر جدار الصمت، وأن كثيرًا من الصحفيين
الشباب صاروا يشتغلون كـ"شهود" في زمن يُجرد فيه الإنسان من إنسانيته.
التحول الرقمي لم يكن
محايداً. في زمن الورق، كانت الرقابة تُمارَس بأدواتها التقليدية: المنع، الحجز، التوقيف،
أما الآن فالرقابة ترتدي ثوب الخوارزميات. كما أشارت شوشانا زوبوف في «عصر رأسمالية
المراقبة»، فإن السلطة في العصر الرقمي لم تعد فقط سياسية، بل أصبحت تقنية. الخوارزميات
التي تدفع إلى الصدارة محتوى معينًا وتحجب محتوى آخر هي ذاتها التي قد تطمس خبرًا عن
معتقل رأي أو تُغرق تقريرًا حقوقيًا في بحر من الأخبار الترفيهية.
إن متابعة قضايا مثل
حراك الريف، أو حالات الاعتقال السياسي في الجزائر، أو حتى الاعتداءات على المهاجرين
في ليبيا، تؤكد لي أن الصحافة الرقمية أصبحت الملجأ شبه الوحيد للتغطية المستقلة. لقد
أصبح الفيديو الموثق بالهاتف الذكي سلاحًا ضد النسيان، والمقال التحليلي المنشور على
منصة مستقلة يعادل في قيمته أحيانًا بلاغًا صادرًا عن منظمة حقوقية. والمفارقة أن هذه
التغطيات، التي تنبع من الهوامش، هي التي تفرض نفسها على الرأي العام، كما فعلت تغطية
«جوليان أسانج» و»إدوارد سنودن» في الغرب، حين كشفت الصحافة الرقمية أن "الحق
في المعلومة" لا يمكن تفكيكه عن "الحق في الكرامة".
إنني أدرك جيدًا أن
هناك حدودًا للصحافة الرقمية: التضليل، الصحافة الصفراء، توظيف منصات حقوق الإنسان
لخدمة أجندات سياسية ضيقة، لكن هذا لا يمنعني من الاعتراف بأن هذه الصحافة خلخلت الثابت،
وفتحت مجالاً للتعددية في السرد. خذ مثلاً ما جرى في قضية «جمال خاشقجي»، لولا التحقيقات
التي قادتها صحافة استقصائية رقمية، لكان قُبر في ملف بارد. أو تأمل تغطية موقع
"درج" لانفجار مرفأ بيروت، أو ما ينشره "إيلاف" و"العمق المغربي"
من تقارير حول ملفات الفساد والاحتجاز التعسفي... كل ذلك ينتمي إلى صحافة رقمية غير
منضوية تحت إمرة الدولة.
ومن تجربتي المتواضعة،
أجد أن هذه الصحافة تتطلب مهارات جديدة: ليس فقط في نقل الحدث، ولكن في تحليل السياق،
وممارسة التحقق من المعلومات، وخلق سرديات بديلة. هذا ما يدفعني دائماً إلى مراجعة
ما كتبه الصحفي «غلين غرينوالد»، الذي لم يكن يكتفي بنشر الوثائق، بل كان يحللها داخل
سياق اجتماعي وسياسي، وهو ما نفتقده في كثير من التجارب الصحفية بالمنطقة العربية،
حيث يتم اختزال الصحافة الحقوقية في العاطفة، بدلاً من جعلها مدخلاً للفهم والتأثير.
الصحفي الرقمي في قضايا
حقوق الإنسان هو، في نظري، كالمتطوع في حقول الألغام: عليه أن يزن كل كلمة، أن يتحقق
من كل تفصيل، وأن يكون صوته أحيانًا أقوى من الصوت الرسمي. وفي هذا الإطار، أستحضر
المراسل المغربي «علي أنوزلا»، الذي دفع ثمناً غالياً فقط لأنه حاول أن يفتح نافذة
غير رسمية للحقيقة. كما أتابع باهتمام تجربة منصات مثل "ميديا بارت" الفرنسية،
التي لم تتردد في نشر وثائق محرجة للدولة، إيماناً منها بأن الصحافة ليست صوت الحكومة،
بل صوت الناس.
صحيح أن الصحافة الرقمية
تواجه تحديات كبيرة: تضييق الوصول، الرقابة الناعمة، تجريم المحتوى، أو حتى التبليغات
الكيدية التي تحذف حسابات مؤثرة. لكنني أؤمن بأن هذه الصحافة، حين تكون مهنية ومستقلة
ومرتبطة بواقع الناس، فإنها تتحول إلى جبهة ناعمة للمقاومة. وهذا ما يجعلني أكتب وأعيد
الكتابة، لأن المعركة من أجل كرامة الإنسان تبدأ أحياناً بكلمة مكتوبة من هاتف صحفي
شاب في مدينة نائية.
وفي الختام، أعتقد
أن مستقبل تغطية قضايا حقوق الإنسان في المغرب والمنطقة لن يُصنع فقط في أروقة المنظمات
أو بيانات النشطاء، بل على صفحات الصحفيين الرقميين الذين يصرّون على أن يكونوا شهودًا
من داخل الجمر، وأن يصنعوا من الكلمات قلاعًا تحمي ما تبقى من إنسانيتنا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق