الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، أبريل 30، 2025

30 أبريل اليوم العالمي لموسيقى الجاز


في الثلاثين من أبريل من كل عام، يحتفي العالم بما يشبه النبض الحر للموسيقى: الجاز. ليست المناسبة مجرد تكريم لنمط موسيقي فني، بل هي وقفة تأمل في تراث إنساني قاوم القمع والعنصرية، وارتقى بالمعاناة إلى مرتبة الجمال المتعالي، كما لو أن الصرخات السوداء التي انطلقت من عمق الجنوب الأمريكي تحوّلت بقدرة الفن إلى نوتات تحررية تخترق الآذان وتوقظ الأرواح.

ليس من الضروري أن تكون خبيرًا بالنوتات لتفهم الجاز، لأن هذه الموسيقى لا تطلب منك سوى شيء واحد: أن تُنصت بقلبك. فمنذ أن نشأ الجاز في نهايات القرن التاسع عشر، متداخلًا مع البلوز والراغتايم في أزقة نيو أورليانز، أصبح بمثابة لغة بديلة للذين لم يُسمح لهم بالكلام: العبيد، المهمشين، أبناء الطبقات الدنيا الذين وجدوا في الإيقاع المتكسّر والارتجال الفوضوي شكلًا من أشكال التمرد والتعبير.

قد تكون أمريكا موطن الجاز، لكنه لم يبق أمريكياً. لقد غادر مبكرًا مرافئ نيو أورليانز، ليصل إلى باريس، الدار البيضاء، طوكيو، وأبيدجان. اندمج مع الموسيقى العربية، واختلط بإيقاعات شمال إفريقيا، ودخل معابد آسيا، وتمازج مع الفلامنكو في إسبانيا، والأنغام الهندية، ليثبت أنه، على خلاف كثير من الفنون، لا يحتكر وطنًا واحدًا.

في المغرب، على سبيل المثال، شهدت مهرجانات مثل "جازابلانكا" و"طنجاز" تزاوجًا فريدًا بين الجاز و"كناوة"، ذلك الفن المغربي العميق الذي يحمل بدوره ذاكرة أفريقية، ليولد من هذا اللقاء صوت ثالث يتجاوز التصنيفات: لا هو جاز محض، ولا هو كناوي خالص، بل موسيقى تعكس تلاقي الثقافات وتداخل الأرواح.

لقد اعتمدت منظمة اليونسكو يوم 30 أبريل كيوم عالمي لموسيقى الجاز سنة 2011، ليس فقط لتمجيد هذا الفن، بل أيضًا لما يحمله من قيم إنسانية عابرة للحدود. في وثيقة الاعتماد، لم تتحدث اليونسكو عن الإيقاع أو السلالم الموسيقية، بل عن "الكرامة، الحوار، السلام، والاحترام المتبادل". كأن الجاز أصبح حجة ثقافية ضد الكراهية والانغلاق، ورسالة في قالب نغمي مفادها أن اختلافنا ليس عيبًا بل مصدر إلهام.

من المثير أن نلاحظ كيف أصبح الجاز اليوم أداة تعليمية في جامعات العالم، يُدرّس لا فقط كفن بل كمنهج في التفكير النقدي، والارتجال الإبداعي، والاستجابة الفورية. فن الارتجال في الجاز، على سبيل المثال، يشبه إلى حد بعيد طريقة تفاعل الإنسان مع الحياة: لا توجد وصفة جاهزة، كل ما تملكه هو ذائقتك، حدسك، وإصغاؤك للآخر.

في زمن الموسيقى المُعلبة والأنغام المُعدّة مسبقًا للتيك توك، يبدو الجاز وكأنه ينتمي لعالم آخر. موسيقى تتطلب إصغاءً عميقًا، صبرًا، وحسًّا فنيًّا لا يتوفر في "السكّْرول" السريع. ومع ذلك، فإن الجاز، مثل الفلسفة والشعر، لا يُقاس بعدد المتابعين، بل بمدى قدرته على مقاومة السطحية.

في كل مقطع جاز هناك شيء من الحياة نفسها: تردّد، خطأ، محاولة، نغمة غير متوقعة، ارتجالٌ ثم تماسك. ربما لهذا السبب أحب هذه الموسيقى. إنها لا تعدك بالكمال، بل بالصدق. وفي عالمٍ متخم بالأقنعة، فإن الصدق في ذاته عزف نادر.

فلنستمع إذن، اليوم، إلى موسيقى الجاز ليس كترف موسيقي، بل كصيغة وجود، كصوت الهامش الذي تعلم كيف يصير مركزًا، وكأمل صغير يدندن داخلنا في لحظة صمت.

0 التعليقات: