الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، أبريل 30، 2025

مدمنو الإعجاب: سيكولوجيا الهوس الرقمي في زمن المنصات: عبده حقي


لم أعد أحتاج إلى مرآة، يكفيني أن أتفقد هاتفي لأرى وجهي كما يريده الآخرون أن يكون. كل "إعجاب" هو صكّ تصديق، كل "تعليق" هو عناق رمزي، وكل "مشاركة" أشبه بمن يصفّق لك في قاعة ممتلئة بالظلال. لقد تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي من أدوات للتواصل إلى منصات للتماهي، ومن نوافذ على العالم إلى مرايا تتغذى على صورتنا الرقمية وتستنسخها بإصرار.

عشتُ التحوّل كما عاشه ملايين المغاربة، في المدن والقرى، بين الفئات المثقفة وتلك التي تكتشف العالم الرقمي لأول مرة. لقد أصبحنا، دون أن نشعر، نطارد التقدير لا في الحياة اليومية، بل في مساحة افتراضية مفرطة في الضجيج، حيث معيار القيمة لم يعد ما نقوله أو ننجزه، بل عدد النقرات التي نحصدها.

اللايك... هذه الكلمة الصغيرة التي دخلت قاموسنا اليومي دون مقاومة، تحمل حمولة نفسية ضخمة. علماء النفس، مثل «تريستان هاريس»، الذي عمل سابقًا في شركة جوجل، تحدث عن "هندسة الانتباه"، حيث تُصمَّم التطبيقات لتخلق نوعًا من الاعتماد العصبي على المكافآت الفورية. نحن أمام نموذج كلاسيكي يشبه تجربة "سكنر" مع الفئران التي تضغط على الزر للحصول على الطعام، غير أننا نحن الفئران نضغط على أزرار الشاشة لنحصل على إشعار يخبرنا أن أحدهم أحبّ صورتنا.

إنه الإدمان، لكنه ليس إدمانًا على مادة ملموسة، بل على شعور: شعور القبول، شعور التقدير، شعور أنني موجود في أعين الآخرين. في دراسة نُشرت بمجلة Psychological Science، تبيّن أن الحصول على "الإعجاب" الرقمي يُفعّل نفس المناطق الدماغية التي ينشطها الشعور بالمكافأة أو حتى تناول الشوكولاتة. لست مبالغًا إن قلت إننا نُغذّي أنفسنا عاطفيًا من خلال هذه المنصات.

هنا تبدأ المأساة. حين يتحوّل الشخص إلى تابع لصورة افتراضية عن ذاته، ينقلب التوازن الداخلي. تصبح الحاجة إلى "الإعجاب" كالماء بالنسبة للعطشان، ويغدو كل منشور اختبارًا يوميًا لقيمتنا. أليست هذه حالة من اغتراب الذات؟ كما وصفها إريك فروم في تحليله لحداثة السوق، حيث يصبح الفرد سلعة، ويقيس ذاته بما تثيره لا بما هي عليه؟

وقد يكون المغرب من البلدان التي شهدت تسارعًا استثنائيًا في هذا المجال. فالمستخدم المغربي، خاصة الشباب، اندمج بسرعة مذهلة مع وسائل التواصل، متجاوزًا الفجوات الاجتماعية والاقتصادية. لكن هذه الدينامية أخفت في طيّاتها نوعًا من الاستلاب الثقافي، حيث لم تعد الأصالة معيارًا، بل مدى قدرتك على محاكاة نموذج عالمي للظهور، وهو ما يسميه «زيجمونت بومان» بـ"حداثة السيولة": كل شيء قابل للتعديل، للفلترة، وللمسح.

في مثل هذا المناخ، يتراجع الحس النقدي لصالح التفاعل السطحي. وتتحوّل قضايا كبرى — كحقوق الإنسان، أو المناخ، أو الحرية الفردية — إلى "هاشتاغات" موسمية، تزدهر في ظل الترند وتخبو بعده. هذا ما يجعلني أتساءل: هل نحن فعلاً فاعلون في هذه الفضاءات، أم مجرد جمهور يُصفّق لما يُعرض عليه؟

أذكر مثالاً صارخًا: في حملة تحسيسية نُظّمت مؤخرا حول التحرّش في المدارس، اختار المنظّمون الاعتماد على مؤثّرين شبكيين بدلاً من خبراء في التربية أو علم النفس. النتائج كانت "مبهرة" على مستوى التفاعل، لكن ماذا عن التأثير الفعلي؟ لا شيء تقريبًا، سوى منشورات ملونة تنتهي بعبارة "احموا أطفالنا" وتتلاشى سريعًا مثل دخان عابر.

وهنا تبرز إشكالية أكثر عمقًا: هل نحن نستخدم وسائل التواصل أم أنها هي من تستخدمنا؟ السؤال مركزي في كتاب «"The Shallows"« لنقولا كار، الذي يعتبر أن هذه المنصات تغيّر في تركيبة دماغنا، وتدفعنا نحو التفكير السريع والمجزأ، بدل التأمل والفهم المتعمّق.

لقد أصبحت الذات الرقمية قناعًا تلبسه الذات الواقعية، ومع الوقت، يتداخل القناع بالوجه إلى حدّ يصعب فيه التمييز بين الاثنين. كم من مرة وجدت نفسي أتريّث قبل نشر صورة، لا لاعتبارات فنية، بل خوفًا من أن لا تحصد ما يكفي من التفاعل؟ وكم من مرة حذفت منشورًا، لا لأنه تافه، بل لأنه لم يُرضِ الخوارزميات؟

ما نعيشه اليوم هو نوع من النرجسية الجماعية، لكنها نرجسية مصنّعة ومبرمجة، تخضع لقوانين المنصة ولمنطق السوق. "أنت ما تُنشر"، لا ما تعيشه. وبهذا، نخسر شيئًا فشيئًا القدرة على أن نعيش في الظل، على أن نكتب دون أن ننتظر التصفيق، وأن نحزن دون أن نوثق حزننا بصورة حزينة.

ختامًا، لست أدعو إلى الانسحاب من هذا العالم، بل إلى وعي نقدي به. فلعلّ أول خطوة نحو التحرّر من عبودية "اللايك" هي أن نعيد بناء علاقتنا بذواتنا، أن نتساءل: من نكون حقًا دون اتصال؟ ما قيمتنا حين لا يرى أحد ما نفعله؟ هل ما نفعله يظلّ ذا قيمة؟

هذه الأسئلة هي، في رأيي، بداية مقاومة هادئة... لكنها ضرورية. 

هل تودّ أن أرفق مع هذا المقال صورة رمزية تعبّر عن العنوان؟

0 التعليقات: