الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، أبريل 29، 2025

رصد للمشهد الثقافي المغربي هذا الأسبوع : عبده حقي


شهدت الساحة الثقافية المغربية خلال الفترة الأخيرة زخماً لافتاً، تحركت فيه خيوط الذاكرة والمستقبل جنباً إلى جنب، وكأن المغرب الثقافي، بتعدديته ومقاومته للرتابة، كان يعزف سمفونية تحمل ملامح الواقع وأحلام الغد. ففي أروقة المعارض، ومنصات الحوارات الدولية، وبين دفاتر التاريخ وأوتار الغناء الشعبي، تبلورت ملامح مشهد ثقافي حي، يعيد طرح الأسئلة بقدر ما يحتفي بالإنجازات.

في مقدمة هذه المشاهد، برزت شهادة المسار الإبداعي والنضالي للناقدة رشيدة بنمسعود، التي مثلت خلاصة تجربة تمتد بين ضفاف الكتابة وعواصف الحقوق. شهادات متعددة بسطت رحلتها الشاقة، مركزة على ذلك التقاطع النبيل بين الحبر والنضال، بين النقد الأدبي والتحولات الاجتماعية. بنمسعود لا تتحدث فقط عن مسار شخصي، بل عن سردية جماعية لنضالات نساء المغرب في سبيل الفكر والحرية.

في موازاة هذا التكريم للذاكرة الفردية والجماعية، خطفت الدورة الثلاثون للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط الأنظار، محققة حصيلة استثنائية تجاوزت 403 آلاف زائر، رقمٌ يحمل في ثناياه دلالات على تعطش المجتمع المغربي للمعرفة والكتاب، في زمن تتقاذفه الشاشات والمحتوى السريع. هذا النجاح اللافت كان بمثابة تصويت شعبي لصالح الثقافة، ولصالح استمرار الكتاب كورقة حية في عصر الرقمنة المتسارعة.

وإلى جانب المعرض، انفتحت واجهات أخرى للثقافة المغربية على العالم. فقد شارك وزير الثقافة محمد المهدي بنسعيد في قمة أبوظبي للثقافة، ممثلاً المغرب ومؤكداً، في تصريحات عدة، أن تحت قيادة الملك محمد السادس، يعمل المغرب على دمقرطة الولوج إلى الثقافة، وجعلها حقاً جماعياً لا امتيازاً نخبوياً. مثل هذه التصريحات لا تبقى في حيز الإنشاء السياسي فقط، بل تتجسد في دعم الفعاليات، وتوسيع خريطة المهرجانات، وإحياء الذاكرة المشتركة.

أما تاريخ المغرب، ذلك الوريث المتقلب بين السلالات والتحولات الكبرى، فقد وجد له صوتاً جديداً في عمل دنيال ريفيه "من الأدارسة إلى الملك محمد السادس"، الذي استعرض بأسلوب بحثي معمق مسار المملكة المغربية عبر القرون. هذا الكتاب، بقدر ما يلقي الضوء على تشكل الهوية الوطنية، يذكرنا أيضاً بأن الثقافة ليست فقط احتفالاً باللحظة الراهنة، بل هي استحضار دائم لأصوات الماضي.

في السينما، لم يكن المركز السينمائي المغربي بعيداً عن هذا النفس الجديد، إذ أكد مديره العزوزي البوجدايني على توجه نحو دعم التجارب الإفريقية، في سياق يجعل من المغرب بوابة للإبداع السينمائي العابر للحدود. ومن عاصمة البوغاز، انطلقت كاميرات تصوير فيلم "Tanger Blues"، الذي يعد بجعل طنجة مرة أخرى فضاء أسطورياً يمتزج فيه الواقع بالحلم، على خطى الأساطير الأدبية التي احتضنتها المدينة.

لكن، وسط هذا الفيض من الفعاليات، لا يمكن إغفال النبرة القلقة التي حملها عبد القادر العفسي في نصه "عزف جنائزي على أوتار الخراب"، حيث أشار إلى بعض التشققات في المشهد الثقافي المحلي، من تهميش للمبادرات الجادة إلى اختناق الإبداع في بعض مدنه النائية. ملاحظاته، وإن كانت قاسية أحياناً، تظل ضرورية حتى لا تنقلب الاحتفالية إلى غطاء يُخفي الأعطاب.

على صعيد آخر، امتدت الحركة الثقافية إلى قضايا اجتماعية شائكة، حيث احتضنت مدينة وجدة ندوة توعوية حول التحرش الجنسي بالمدارس، في محاولة لربط الثقافة بالدفاع عن الكرامة الإنسانية في سن الطفولة المبكرة، وهي مبادرات تبرهن أن الثقافة لا تقتصر على الكتب والمعارض بل تتسع لقضايا الناس وهمومهم اليومية.

المهرجانات الموسيقية كانت أيضاً في الموعد، إذ شهدت الجديدة وأزمور احتضان الدورة الثالثة والثلاثين من مهرجان "سبعة شموس سبعة أقمار"، بتنوعه الإيقاعي والثقافي الذي يؤكد أن المغرب يظل ملتقى الأنوار المتقاطعة. كما عاد مهرجان موازين بحلة جديدة، حيث سيكون من أبرز محطاتها صعود الفنان المغربي "طوطو" على منصة السويسي، في لحظة رمزية تعكس تزاوج الثقافة الحضرية الشابة مع التقاليد المهرجانية العريقة.

في الغناء الشعبي، أطل عماد التطواني بأغنيته "جرح صعيب"، التي لامست قلوب عشاق الطرب الشعبي، لتذكّرنا بأن الفن الأصيل لا يزال قادراً على مخاطبة الوجدان، مهما تعددت الإيقاعات وأنماط التعبير.

أما في المشهد الفني العربي، فقد أطلقت الفنانة مي حريري أغنيتها الجديدة "لا تغلط"، في تعاون مع منصة وتري، مما يعكس استمرار الحركية الفنية العابرة للأقطار، وإن بقيت التحديات التجارية تفرض شروطها الصارمة على انتشار الأغنية الوجدانية.

أخيراً، لا يمكن تجاهل ملف أسعار الكتب بمعرض الرباط، الذي فتح نقاشاً واسعاً حول إمكانيات اقتناء الكتاب في ظل الأزمة الاقتصادية، حيث رأى البعض أن الأسعار ظلت معقولة نسبياً مقارنة بحجم المعروض، فيما اعتبر آخرون أن الوصول إلى الكتاب يظل رهيناً بسياسات دعم أوسع وأشمل.

وهكذا، بين معارض كبرى وندوات جادة ومهرجانات نابضة وأغانٍ تحاكي الألم والأمل، رسمت الثقافة المغربية لنفسها هذا الشهر لوحة متعددة الألوان، متجذرة في الذاكرة، ومنفتحة على الآتي. لوحةٌ تقول لنا إن الثقافة ليست ترفاً موسمياً، بل مقاومة يومية ضد النسيان.

0 التعليقات: