الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، أبريل 16، 2025

ما بعد اللغة: الأدب الرقمي الذي يروي بلا كلمات: ترجمة عبده حقي


حين أمسكت لأول مرة بنص أدبي لا يحتوي على كلمات، بل على رموز هندسية، ومقاطع صوتية متداخلة، وألوان تتغير بحسب حركة الفأرة... شعرت أنني دخلت منطقة غامضة من الخيال والتعبير، أشبه ما تكون بحلم سريالي لآرتور رامبو يعاد إنتاجه عبر شيفرة رقمية. أدركت لحظتها أنني أمام تحول حاسم في بنية الأدب، تحوّل لا ينسف اللغة، بل يتجاوزها نحو فضاءات تعبيرية لا تعتمد على الأبجدية كما عرفناها لقرون.

الأدب ما بعد اللغوي هو الابن الشرعي لعصر الانفجار الرقمي، وهو في الوقت ذاته رد فعل عميق على إرهاق اللغة، على تآكل قدرتها على الدهشة. في زمن تتكرر فيه الكلمات حتى تفرغ من معناها، برزت هذه النصوص الجديدة لتقول إن الحكاية لا تحتاج دومًا إلى جملة فعلية كي تُروى، بل قد تُحكى بلونٍ أحمر ينبض في زاوية الشاشة، أو عبر صوت خافت يتكرر في إيقاع دائري.

في كتابها *"Electronic Literature: New Horizons for the Literary"* ترى الكاتبة «N. Katherine Hayles» أن النصوص الرقمية الحديثة لم تعد تستند إلى الكتابة وحدها، بل إلى التفاعل والتعدد الوسيطي (multimodality). النص لم يعد مجرد سرد يُقرأ، بل أصبح تجربة تُعاش. وقد تعزز هذا التحول من خلال تقنيات الواقع المعزز والواقع الافتراضي التي أذابت الحدود بين الكاتب والقارئ، بين المشهد والمخيلة.

لقد مر الأدب بمراحل تاريخية متعددة، من الشفهي إلى المكتوب، ثم إلى المطبوع، وبعدها إلى النص الإلكتروني. لكن ما نعيشه اليوم هو قفزة ما بعد لغوية بكل ما تعنيه الكلمة من خلخلة لمفاهيم الشكل والمحتوى واللغة ذاتها. وهو ما يشبه في عمقه ما أحدثته المدرسة السريالية في مطلع القرن العشرين، حين انتفضت ضد المنطق النحوي لصالح التداعي الحر والصورة الشعرية الطليقة.

على سبيل المثال، نُشرت في عام 2022 على منصة "The New River" مجموعة رقمية بعنوان “Symphony of Symbols”، تعتمد على إشارات مرئية وصوتية فقط دون أي كلمة. تتحرك الرموز في نسق غير خطي، وتتغير بحسب توقيت الولوج والاختيارات التفاعلية للقارئ. هذا النص لا يُقرأ، بل يُخاض كما يُخاض الحلم، ويولد بتجربة مختلفة لكل قارئ، مما يفتح الباب أمام مفهوم "القراءة الشخصية المطلقة".

ومع ذلك، فإن ما بعد اللغة لا يعني غياب المعنى، بل إعادة تشكيله. الرموز هنا لا تحاكي اللغة، بل تقترح بديلاً إدراكيًا لها. كأننا نعود إلى مرحلة ما قبل الكلام، حين كان الإنسان يعتمد على الإيماءة والنغمة للتواصل، لكنه الآن يستخدم الوسائط الرقمية لبناء جمالية معاصرة تنتمي إلى ما يمكن تسميته بـ"الحس البصري-السمعي للمعنى".

البعض قد يظن أن هذه النصوص أقرب إلى الفن التشكيلي أو المقطوعات السمعية منها إلى الأدب، غير أن هذه الرؤية تتجاهل أن الأدب كان دائمًا فناً هجينا، يتغذى على تقاطعاته مع الفنون الأخرى. كما يرى «Lev Manovich» في كتابه *"The Language of New Media"*، فإن الفن الرقمي لم يلغِ السرد، بل أعاد توجيهه ليصبح تجربة متعددة الحواس، تتطلب من المتلقي أدوات إدراك جديدة.

ومع هذا التحول، تبرز أسئلة جوهرية: هل نحن بصدد نهاية "الكاتب" كفرد؟ هل أصبحنا نعيش زمن "المُبرمج/الفنان" كصانع للنصوص؟ وماذا عن القارئ؟ هل تحول إلى مشارك في صناعة المعنى لا مجرد متلقٍ؟ هذه الأسئلة لا تنتمي فقط للنقد الأدبي، بل لحقول الفلسفة وعلم النفس وعلم الأعصاب، إذ يُعاد فيها النظر في العلاقة بين الإدراك والمعنى.

وربما يكمن جوهر هذا الأدب الجديد في كونه مراوِغًا. لا يُفصح بسهولة، ولا يمنح ذاته دون استكشاف، بل يطلب من قارئه أن يتحول إلى متصوف رقمي، يقرأ الضوء كحرف، ويصغي إلى الصمت كجملة، ويجعل من التفاعل وسيلة للوصول إلى جوهر الحكاية.

في النهاية، لا أعتقد أن ما بعد اللغة يُقصي اللغة، بل يذكرنا بأنها ليست الوحيدة القادرة على التعبير. هو دعوة مفتوحة للعودة إلى الحواس، لتوسيع طيف الإدراك، ولتحرير المخيلة من قيد الأبجدية. فربما تكون الحكايات التي نحتاجها اليوم، هي تلك التي تُحكى بلونٍ يتنفس، وصوتٍ لا يقال، ورمزٍ لا يُفكك إلا في العزلة التامة مع الشاشة.

0 التعليقات: