لا يكاد يمر مؤتمر أو ندوة أو حتى اجتماع أحياء شعبية في أي مكان من هذا العالم، إلا وتفاجئنا تلك الكيانات الورقية المسماة بـ"الجمهورية الصحراوية الوهمية" بحضورها الباهت كظل بلا ملامح، تلوّح بأعلام من صنع الخيال وتردد شعارات من زمن الشعارات المهترئة. آخر فصول هذا المسلسل الممل، كان في مدينة حيدر آباد الهندية، حيث أرسل "الكيان الصحراوي" بعثة يتيمة برئاسة من أسموه "سفيرًا" لدى آسيا، في مهمة لا تختلف كثيرًا عن رمي قنينة فارغة في بحر هائج.
هناك، حيث اجتمع العالم
الحقيقي لبحث قضايا العدالة العالمية والتحديات الكبرى، اختارت البوليساريو، المدعومة
كالعادة من مال الجزائر وحنقها التاريخي، أن تتسلل بين الجموع. أشبه ما يكون حضورهم
ذلك برقصة دب مدجج بالأصفاد وسط باليه روسي؛ لا ينسجم مع الإيقاع ولا مع النص ولا حتى
مع الزي الرسمي. ومع ذلك، وقف "السفير" الوهمي إبراهيم مختار، ملوحًا ببيانات
محفوظة كأناشيد مدرسية، عن "حق الشعوب في تقرير المصير" و"إدانة التوسعية"،
وكأن العالم كان ينتظر حروفه الخشبية ليصحح مسار التاريخ.
يا للسخرية: في قاعة
تعج بنخب سياسية من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، جاءت البوليساريو لتتحدث عن
"الاحتلال"، بينما لا وجود فعلي لها لا فوق أرض ولا تحت سماء، عدا في قصاصات
بيانات كتبها موظفون جزائريون في مكاتب وزارة الخارجية بالمرادية. حضورهم هذا يذكرنا
بحكاية أطفال القرية الذين كانوا يرتدون أزياء الفرسان ويلعبون معًا لعبة "حرب
الممالك"، يصنعون دولًا من الخيال، ويعينون أنفسهم ملوكًا وأمراءً على سهول من
الغبار.
في "قمة بهارات"
كما سميت، والتي نظمتها لجنة المؤتمر الوطني الهندي تحت شعار "تحقيق العدالة العالمية"،
كان هدف الاجتماع مناقشة القضايا الكبرى: صعود اليمين المتطرف، الأزمات الاقتصادية
العالمية، انهيار العدالة المناخية... لكن، لا شيء من هذا كله بدا يعني البوليساريو.
هؤلاء حضروا فقط ليكرّروا قصيدة مملة عن "حق الشعوب"، ثم غادروا القاعة كما
دخلوا، بلا أثر سوى بعض الصور المتناثرة على صفحات مشبوهة في زوايا الإنترنت.
والأكثر إضحاكًا، أن
البيان الختامي للقمتين أعاد التأكيد على "حق الشعوب في تقرير مصيرها"، وهو
مبدأ محترم لا شك فيه ، لكنه لا ينطبق على كيانات خيالية تشبه بائع الوهم الذي يبيع
الناس أحلامًا لا ترى إلا تحت تأثير الحمى. فمتى كانت مجموعة من بضعة آلاف، محاصرة
في مخيمات بئيسة وتديرها قيادة مقرها في العاصمة الجزائرية، تمثل "شعبًا"
يحق له تأسيس "دولة"؟
الحقيقة التي يحاولون
تجاهلها بكل ما أوتوا من دعم نفطي وتطبيل دعائي، أن وجودهم مجرد حيلة سياسية وُلدت
في سبعينيات القرن الماضي، عندما كان العالم لا يزال مخدوعًا بشعارات الحرب الباردة.
أما اليوم، فقد أفل زمانهم كما تأفل نجوم كاذبة أضناها الزيف.
مفارقة أخرى مضحكة:
في الوقت الذي كانت فيه دول حقيقية تناقش مخاطر تصاعد الفاشية الجديدة ومطالب الجنوب
العالمي بإنصاف اقتصادي، كانت "الجمهورية الورقية" تقاتل للحصول على دقيقة
من الاهتمام، تسرد فيها "مظلوميتها" المصطنعة، بينما ملايين الصحراويين الحقيقيين
يعيشون في كنف وطنهم المغربي، يحظون بمشاريع تنموية، ويشاركون في الحياة الديمقراطية
المغربية بلا أوهام.
ما يجعل السخرية أكثر
مرارة هو أن هذه المشاركات العقيمة تأتي دومًا بفضل شيكات بيضاء موقعة من الخزينة الجزائرية،
التي تفضّل أن تموّل المؤتمرات الفارغة بدلاً من استثمار أموالها في تنمية شعبها الذي
يصطف يوميًا أمام طوابير الحليب والخبز.
ولو شئنا التدقيق أكثر،
لوجدنا أن البوليساريو باتت أشبه بجماعة موسيقية جوالة تتنقل من مهرجان إلى آخر، تعزف
لحنًا واحدًا مملًا، بأدوات مهترئة، لم يعد أحد يصفق لها إلا الممولون والمخدوعون ببلاغة
قديمة لا تسمن ولا تغني من جوع.
هكذا تستمر الجمهورية
الصحراوية الوهمية في عروضها الجوالة، تجوب الندوات بلا جمهور حقيقي، تبحث عن شرعية
بين أوراق المؤتمرات، بينما الواقع يزداد وضوحًا: المغرب في صحرائه، والصحراء في مغربها،
والبوليساريو في عالمها الموازي، تؤدي دورها على مسرح خيالي صنعته سنوات البترول السياسي،
وزمن الأيديولوجيا المتحجرة.
أما العالم، فقد غادر
المسرح منذ زمن، وأطفأ الأضواء، وتركهم يعتلون الخشبة، يعيدون أداء مشهدهم الحزين في
حلقة مفرغة لا نهاية لها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق