الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، أبريل 27، 2025

بين السطو والاحتفاء: جدلية الثقافة في زمن إنستغرام: عبده حقي


في زمنٍ تتقاطع فيه الثقافات كما تتقاطع طرق القوافل القديمة في صحارى العالم، أجدني اليوم، ككاتبٍ مغربي، متأملاً في إحدى أكثر القضايا الثقافية إلحاحًا: الفارق الدقيق بين "الاستيلاء الثقافي
" (Cultural Appropriation) و"التقدير الثقافي

" (Cultural Appreciation)، خاصةً في عصر إنستغرام حيث تختلط النيات بالسطحية، ويذوب المعنى في فوضى الصورة.

كثيرًا ما أجد نفسي ممزقًا وأنا أرى رموزًا من ثقافتنا المغربية —كالطربوش الأحمر الفاسي، أو الزليج الأندلسي، أو حتى القفطان العتيق— تتنقل بين صفحات المؤثرين والمؤثرات العالميين، أحيانًا بروح مفعمة بالاحترام، وأحيانًا أخرى كما تُقتلع زهرة من جذورها لتوضع في قنينة زجاجية فاخرة على رف تجاري. في كتابها

"Who Owns Culture?" ، تطرح سوزان سكافير سؤالًا محوريًا عن معنى امتلاك التراث المشترك، مستعرضةً كيف أن النوايا الحسنة قد تنزلق، دون وعي، نحو مصادرة ثقافات الآخر تحت شعار الإعجاب بها.

لقد أصبح إنستغرام اليوم أشبه بسوقٍ عالمي مفتوح، يعرض الثقافات كما تعرض التوابل في أسواق فاس العتيقة. لكن، بينما كانت تلك الأسواق تنبض بالتفاعل الحي والمشترك، صار إنستغرام يختزل الرموز إلى مجرد "ترندات" لا تدوم أكثر من دورة قمرية. وهذا ما يجعل التمييز بين التقدير الحقيقي والسطو الجمالي ضروريًا أكثر من أي وقت مضى.

إن التقدير الثقافي، كما أعيشه، يعني الغوص العميق في فهم الخلفيات، احترام التاريخ، والاعتراف بالمعاناة والسياقات التي أنجبت هذه الإبداعات. حين ترتدي مصممة أزياء إيطالية قفطانًا مغربيًا في عرضها بباريس، مشيرةً إلى أصوله وتاريخه، فإنها تفتح نافذة للعالم على تراثٍ غني وتشاركنا الاحتفاء به. بالمقابل، حين يُختزل القفطان إلى مجرد فستان "بوهيمي" يباع في أسواق الأزياء السريعة دون أدنى إشارة لمصدره، يصبح ذلك شكلاً من أشكال الاستيلاء الذي يشبه استلاب الأرض من تحت أقدام أصحابها الأصليين.

الأمثلة عديدة، وقد وثقتها دراسات أكاديمية كثيرة، مثل الدراسة المنشورة في مجلة «Cultural Studies» التي أبرزت كيف أن الاستيلاء الثقافي غالبًا ما يعيد إنتاج أنماط الهيمنة الاقتصادية، عبر استغلال عناصر ثقافية لشعوب مهمشة وتحويلها إلى سلعة دون مشاركة العائد الرمزي أو المالي مع المجتمعات الأصلية.

وهنا، في قلب هذه المعضلة، يبرز سؤال الضمير: هل يكفي الإعجاب لتبرير الاستخدام؟ أم أن الإعجاب الذي لا يتبعه اعتراف هو، في جوهره، شكل جديد من أشكال المحو؟

ككاتب مغربي، عشت جزءًا من هذه الحكاية حين لاحظت كيف تم استغلال الرمز الأمازيغي، سواء في الحلي أو النقوش أو الشعر، في الحملات الإعلانية الكبرى دون أدنى تقدير للمعنى التاريخي العميق لهذا التراث. يذكرني هذا بما قاله إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق": «حين تستعير القوة ما لا تفهمه، فإنها تحوله إلى كاريكاتيرٍ لخدمتها». وفي زمن إنستغرام، تتحول الرموز أحيانًا إلى ملصقات فارغة تهدف لجمع الإعجابات أكثر مما تهدف لإشعال وعيٍ أو إلهام حوار.

من خلال تجربتي، أؤمن أن الطريق إلى تقديرٍ ثقافي حقيقي يمر عبر المعرفة. أن تسأل، أن تتعلم، أن تضع نفسك موضع التلميذ لا المستهلك. المبادرات التي تجمع بين الفنانين الأصليين والعالميين، التي تحتفي بالأصالة دون تزييف، والتي تعيد صياغة العلاقة بين المحلي والعالمي على قاعدة الاحترام المتبادل، هي بارقة أمل في هذا الزمن الرقمي السريع.

في النهاية، كما أن الورد لا يعيش خارج تربته الأصلية إلا باهتًا، فإن الثقافات لا تحتمل أن تُقتطع منها رموزها دون جذر، دون سياق، دون فهم. لعلنا في زمن السرعة هذا بحاجةٍ ماسّة إلى تباطؤٍ تأملي، يعيد للثقافة عمقها، وللتقدير معناه، وللصورة ظلها الذي طالما كان مرآة للروح أكثر مما هو عرضٌ للعيون.

0 التعليقات: