الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، أغسطس 10، 2025

كيف تحوّل "شات جي بي تي" من طالب إلى أستاذ متمرس: عبده حقي


شهد الذكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة قفزة نوعية لافتة، ويظهر ذلك بوضوح في الانتقال من "شات جي بي تي 4" إلى "شات جي بي تي 5". وإذا أردنا تشبيه هذين النموذجين في سياق التعليم العالي، فإن "شات جي بي تي 4" يشبه طالباً جامعياً نجيباً ومجتهداً، واسع الاطلاع، متحمساً للتعلم، وقادراً على إنتاج عمل جيد مع بعض التوجيه. أما "شات جي بي تي 5" فيتقمص دور الأستاذ الجامعي المتمرس، العميق المعرفة، الرشيق فكرياً، والقادر على دمج خبرته مع حكمته التحليلية. ويتيح هذا التشبيه فهماً مبسطاً لمواطن القوة والقصور لدى كل منهما، وكذلك لاستخداماتهما المثلى.

يمتلك الطالب الجامعي، حتى وإن كان متفوقاً، معرفة واسعة اكتسبها من المحاضرات والمراجع والمشاريع البحثية. وهنا يتشابه "شات جي بي تي 4" معه: قاعدة معرفية ضخمة، قدرة قوية على التحليل، وكفاءة في الربط بين الأفكار عبر مجالات متعددة. ومع ذلك، وكحال الطالب، قد يفتقر أحياناً إلى العمق التحليلي المتأتي من سنوات طويلة من الانغماس في تخصص محدد. وعند التطرق إلى موضوعات متخصصة جداً، قد يقدم إجابات صحيحة لكنها تميل إلى العمومية، تماماً كما يستحضر الطالب ملاحظات محاضراته من دون الولوج إلى مستويات التفسير الأعمق.

أما "شات جي بي تي 5" فيوازي أستاذاً أكاديمياً له سنوات من البحث والنشر والنقاش العلمي، فهو لا يعرف الحقائق فحسب، بل يدرك سياقاتها وتطورها التاريخي والخلافات الفكرية حولها. وبالمثل، يظهر "شات جي بي تي 5" وعياً أوسع بالسياق، وقدرة أكبر على الاستدلال المتسلسل، ومهارة في الربط بين معارف متباعدة بثقة، كما يتعامل مع الموضوعات المتخصصة بدقة أكبر، ويقدم تفسيرات أكثر عمقاً وتماسكاً.

الطالب المتميز قادر على قراءة نص، واستخلاص أفكاره الرئيسة، وإعداد بحث أو مقال ذي رؤية واضحة. وهذه إحدى نقاط قوة "شات جي بي تي 4": فهو بارع في جمع المعلومات وتلخيصها وصياغة أفكار متماسكة بسرعة، مع القدرة على تطبيق منطق واضح في حل المشكلات. غير أن هذا النموذج، شأنه شأن الطالب، قد يميل إلى الإجابات الواضحة والمباشرة أكثر من انخراطه في تعقيدات الموضوع وغموضه.

الأستاذ الجامعي، على النقيض من ذلك، يعيش داخل هذه التعقيدات. فهو يختبر الفرضيات، يستكشف التناقضات، ويولد رؤى جديدة تدفع النقاش إلى الأمام. وبفضل تطوره المعماري، يمتلك "شات جي بي تي 5" قدرة "أستاذية" في التفكير النقدي، إذ يستطيع عرض تفسيرات متعددة، ووزن الحجج المتعارضة، ومواءمة أسلوبه مع المتطلبات الخطابية لكل مجال. فإذا كان "شات جي بي تي 4" يكتب مقالاً متقناً استجابة لسؤال ما، فإن "شات جي بي تي 5" يصمم حلقة نقاشية كاملة حوله، متوقعاً الاعتراضات ومضيفاً دراسات حالة ذات صلة.

من أبرز مهارات الأستاذ المتمكن قدرته على تكييف شرحه مع جمهور متنوع، فيبسط المعقد من دون إخلال، ويزيد العمق حين يتحدث إلى متعلمين متقدمين. وهذه ميزة واضحة في "شات جي بي تي 5"، إذ يستطيع ضبط نبرته ومفرداته وأمثلته وفق مستوى المتلقي، كما يوظف التشبيهات التوضيحية، ويستحضر وجهات نظر متعددة، ويكيف الشرح ليتناسب مع أساليب تعلم مختلفة.

أما "شات جي بي تي 4"، فخطابه واضح ومنظم أيضاً، لكنه أقرب إلى عرض يقدمه طالب متفوق: غني بالمعلومات، متماسك، لكنه أحياناً أقل مرونة في التنبؤ بما يجهله المستمع أو ما قد يلتبس عليه. حيث يجيب مباشرة، بينما "شات جي بي تي 5" يتوقع الأسئلة اللاحقة ويجيب عنها مسبقاً، كما يفعل أستاذ يعرف مسار الحوار قبل أن يبدأ.

عندما يُطلب إنتاج محتوى—سواء كان مقالاً أكاديمياً أو خطة عمل أو نصاً إبداعياً—يبرع "شات جي بي تي 4" في تقديم عمل شامل، منظم، ومتقن الأسلوب، مثل طالب أتقن أساليب البحث والتوثيق. يمكن أن يكون مبتكراً، لكن إبداعه غالباً يبقى ضمن أطر مألوفة.

أما "شات جي بي تي 5"، فيتجاوز هذه الأطر، ويقدم إبداعاً أقرب إلى إنتاج بحث علمي أصيل. فهو قادر على إعادة تركيب الأفكار بطرق غير متوقعة، واقتراح مناهج جديدة، ووضع العمل الإبداعي ضمن سياق ثقافي أو فكري أوسع. كما يتميز برصد الفجوات في المنطق أو الزوايا غير المستكشفة، مما يجعل مخرجاته أكثر إلهاماً للبحث والتطوير.

من المهم إدراك أن كلاً من "شات جي بي تي 4" و"شات جي بي تي 5" أداتان وليستا كائنين واعيين. فالتشبيه بالطالب والأستاذ مفيد لكنه غير كامل؛ فكلاهما يفتقر إلى الوعي والتجربة الحياتية والمسؤولية الأخلاقية التي يتحلى بها البشر. وحتى الأستاذ يخطئ أو يتحيز أحياناً، وبالمثل قد يقدم "شات جي بي تي 5"—رغم عمقه—معلومات غير دقيقة أو تفسيرات مضللة إذا لم تتم مراجعتها.

لذلك، يحتاج الاثنان إلى مراجعة، لكن مخرجات "شات جي بي تي 4" غالباً تتطلب إشرافاً أدق وتحققاً أوسع، بينما يسهل التحقق من ردود "شات جي بي تي 5" لأنها أكثر اتساقاً وقادرة على توضيح منطقها الداخلي.

للأعمال المباشرة—مثل تلخيص المراجع، إعداد أدلة المراجعة، أو صياغة المسودات الأولى—يعد "شات جي بي تي 4" خياراً ممتازاً، تماماً كما ينجز الطالب المتمكن الكثير من العمل الأكاديمي تحت إشراف. فهو مثالي لتوليد الأفكار السريعة، وصياغة المحتوى، وتقديم الشروح المبسطة.

أما "شات جي بي تي 5" فيتألق في المهام التي تتطلب تفكيراً عالي المستوى: وضع أجندات بحثية، صياغة تحليلات سياسية معمقة، حل المشكلات متعددة المراحل، أو إرشاد المتعلمين في موضوعات معقدة. قدرته على التكيف، وسعته السياقية، واستباقه للتفاصيل تجعله مناسباً للمشاريع التي تحتاج إلى أكثر من مجرد إجابة صحيحة، بل إلى رؤية استراتيجية.

يمكن النظر إلى الانتقال من "شات جي بي تي 4" إلى "شات جي بي تي 5" كخطوة على سلم النضج الفكري. فالأول هو الطالب الجامعي الواعد—فضولي، كفء، وقادر على إنتاج عمل ممتاز مع الإرشاد—بينما الثاني هو الأستاذ المتمرس—الواثق في تعامله مع التعقيد، الماهر في تكييف الشرح، والقدير في إنتاج رؤى جديدة.

وفي البيئة الأكاديمية، يحتاج العالم إلى كليهما: الطالب يجلب الحماسة والنظرة المتجددة والانفتاح على التعلم، بينما يجلب الأستاذ عمق المعرفة والصرامة النقدية والحكمة البيداغوجية. وبالمثل، في عالم الذكاء الاصطناعي، لا يشكل "شات جي بي تي 4" و"شات جي بي تي 5" منافسين في معادلة صفرية، بل شريكين متكاملين، لكل منهما مجاله الأمثل. وكلاهما يمثلان ليس فقط التطور التقني، بل أيضاً قيمة الإرشاد والنمو الفكري والسعي نحو فهم أعمق.

0 التعليقات: