الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، أغسطس 10، 2025

حوارنا الذي تركنا صامتين وراح وحيداً : عبده حقي


جلسنا على الكرسي نفسه، لكن الكرسي رفض أن يقرر أيَّنا كان يجلس عليه. أنتَ مائلٌ إلى اليسار، وأنا مائلٌ إلى اليمين، وفي الوسط تنفَّس الخشب تنهيدة طويلة. كلماتنا لم تلتقِ في منتصف الطريق، بل اصطدمت مثل سربين من الطيور الزجاجية المهاجرة. بعضها تحطَّم إلى معنى، وبعضها تحطَّم إلى لامعنى. كانت محادثة مثالية.

قلتَ: «الفهم المطلق طعمه مثل خبز عجن في الشمس منذ ثلاثة قرون».

قلتُ: «اللا-فهم المطلق هو ظل ذلك الخبز، لا يزال دافئاً، ويرفض أن يُؤكل».

اتفقنا فوراً، واختلفنا في اللحظة نفسها. شعرنا معاً بالارتياح، وبغثيانٍ خفيف، كأن الفلسفة قد تحولت إلى دولاب دوّار لا يتوقف عن الدوران، من دون أن يطلب تذاكر.

في الخارج، كان السماء خريطةً مطوية لمكان لم يكن موجوداً البارحة. أنهارٌ من الحبر تشق جبالاً من الملح. في الوديان، طواحين هواء تمضغ الأفكار بدل الحبوب؛ وكل هبّة ريح تنتج مثلاً شعبياً يتبخر قبل أن يقرأه أي أحد. قررنا السير إلى هناك، مع أن الأرض تحتنا كانت تتحرك بالفعل.

وأثناء سيرنا، شعرتُ بصوتك يرتجف في جيبي، مثل ساعة تعلّمت البكاء. أخرجتُه ووضعته في يديك، لكنه كان قد نسي صاحبه. ابتسمتَ—حزنٌ وسعادة على الوجه نفسه—عاطفتان متناقضتان ترفضان الانفصال.

قلتَ: «لم يعد لي».

قلتُ: «لم يكن لك يوماً».

وكان هذا أيضاً حقيقة مشتركة، وكذبة مشتركة.

سمكة بحجم كاتدرائية سبحت فوق رؤوسنا، وظلّها يفوح برائحة أعياد ميلاد منسية. قشورها لم تعكس أجسادنا، بل النقاشات التي لم نكملها أبداً. مددتَ يدك وانتزعتَ قشرة، فوجدتَ بداخلها مسرحاً صغيراً يمثل عليه ممثلان حواراً لن يُؤدَّى أبداً.

الصورة غير المتوقعة الأولى.

الصورة غير المتوقعة الثانية: طفل يوازن هرماً من المرايا على إصبعه، كل مرآة تعكس قرناً مختلفاً، لا واحداً منها قرننا.

الصورة غير المتوقعة الثالثة: بستان، كل شجرة فيه تحمل ثمرة واحدة، على شكل الفكرة التي تحاول ألّا تفكر بها.

توقفنا في البستان. قضمتُ فكرتك الممنوعة، فوجدتها مليئة بماء المطر. قضمتَ فكرتي فوجدتها صحراء. بيننا فيضان وجفاف—مناخان محبوسان في الجملة نفسها.

ثم وقع الموقف العبثي: اكتشفنا أننا كنا نسير ليس على الأرض، بل على جفن فيلسوف نائم عملاق. وكل خطوة كنا نخطوها جعلت أحلامه أكثر عنفاً. حضارات كاملة كانت تومض إلى الوجود ثم تختفي في طرفة عين من نومه العميق. إحداها، لوهلة، آمنت بوجودنا.

ضحكتَ، لكن ضحكتك تحوّلت إلى سرب نحل، حلق إلى فمي ولسعني بذكريات لم أعشها قط. شكرتك، لأنها كانت جميلة، حتى وإن كانت مؤلمة. اعتذرتَ، لأنها مؤلمة، حتى وإن كانت جميلة. تناقض يطوي تناقضاً، حتى صار للكلمات طعم المعدن.

بدأت الكتابة التلقائية تتدفق من جيوبنا. أخرجتُ ورقة وكتبت من دون تفكير: لون الغد عظم مدفون في سحابة. أخذتَ القلم، أو ربما أخذك، وكتبتَ: وجهك هو الساعة التي تلتهم صباحاتي بالعكس. لم يسأل أحدنا الآخر عن المعنى، لأن المعنى انسحب بهدوء إلى المحيط حين لم نكن ننتبه.

بلغنا نهر الحبر. كان أكثر كثافة من الليل، وتفوح منه رائحة روايات لم تُكتب بعد. حاولنا عبوره، لكن التيار ظل يعيد ترتيب انعكاساتنا إلى غرباء. صرتَ امرأة بعينيّ، وصرتُ رجلاً بيديك. وللحظة، تعرّف كلٌّ منّا على الآخر أكثر مما فعل في أي وقت.

قلتَ: «أنا أنت حين لا أكون أنا».

قلتُ: «وأنا أنا حين أضيع فيك».

هززنا رؤوسنا معاً موافقة، ثم هززناها رفضاً.

في الأعلى، عادَت السمكة-الكاتدرائية، وفي فمها مدينة من بيوت صغيرة مصنوعة من الهمسات. رغبتُ في دخول أحدها، لكن الأبواب كانت مغلقة من الداخل. قلتَ إن ذلك لأننا لم ننسَ بما يكفي بعد.

استلقينا على جفن الفيلسوف وتركنا حلمه يحملنا. طُفنا في سوق يبيع فيه الباعةُ بضائع غير مرئية: الصمت في جرار، الندم في مظاريف، الفرح مطوياً في طيور ورقية تطير قبل أن تشتريها. وفي كشك واحد، قطعة نقود ضخمة يمكنها شراء أي شيء، لكن فقط إذا أعطيتها لشخص لن تلتقيه أبداً.

ارتباط لا منطقي: تذكرتُ مشط جدتي، ذاك الذي لم تملكه قط، وكيف كان دائماً برائحة الشتاء رغم أنها ماتت في الصيف. قلتُ لك ذلك، فأشرتَ إلى غيمة على شكل الرقم سبعة. راقبناها وهي تنقسم إلى ثلاثتين، ثم تذوب في الأرض تاركةً وراءها طعم النحاس.

حينها أدركنا—أو ربما لم ندرك—أن الصداقة الفلسفية هي رقصة بين شبحين ينتعلان حذاء بعضهما، وكلٌّ منهما مقتنع أنه يسير بحذائه. لم نحتج إلى الاتفاق على ما إذا كنا قد وصلنا، كانت الحركة تكفي.

وحين نهضنا، كان البستان قد تحوّل إلى مسرح فارغ. على الخشبة، الممثلان من قشرة السمكة ما زالا يتدربان، رافضين العرض. صفّقنا على أي حال. دوى تصفيقنا في حلم الفيلسوف، وبدأ يستيقظ. اهتزّت الأرض، وللحظة خشيتُ السقوط في الفجوة بين جفنيه. لكنك أخذت يدي—ثابتة ومرتجفة—واتفقنا بصمت أن السقوط قد يكون شكلاً آخر من الوصول.

غادرنا قبل أن يفتح عينيه. السماء عادت خريطة، لكنها هذه المرة فارغة، تنتظر أنهاراً وجبالاً لم نفكر بها بعد. خطوتُ للأمام، وشعرتُ وكأني أدخل فكرتك. خطوتَ أنت، وكأنك تدخل فكرتي. ضحكنا—من دون نحل هذه المرة—وارتفعت الضحكة في الهواء، هشة كسرب طيور زجاجية، تتناثر نحو أفق لا نراه.

في مكان ما، في مدينة لا هي مستيقظة ولا نائمة، تستمر محادثتنا من دوننا. تتحرك في حلقات، دوامات، سقوط مفاجئ. تتناوب بين الخبز وظله، الصحراء والفيضان، النعم واللا. وفي هذا التيار المتناوب، أحب أن أظن أننا أفضل حالاً.

أليست حياة المفكر شيئاً سوى سيمفيلوسوفيا داخلية؟

وأليست السيمفيلوسوفيا ببساطة هي: أن نلتقي في المطلق، ونفترق في المطلق، مراراً وتكراراً، حتى ينسى الكرسي مَن كان يجلس عليه؟

0 التعليقات: