الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، أغسطس 11، 2025

دور لذكاء الاصطناعي العاطفي في تشكيل الرأي العام من خلال العناوين الرئيسية ترجمة عبده حقي


لم يعد العنوان مجرد جملة افتتاحية أو مدخل إلى النص، بل أصبح أداة شديدة التأثير في تشكيل الوعي الجمعي، خاصة مع دخول الذكاء الاصطناعي العاطفي إلى ساحة إنتاج المحتوى. هذا النوع من الذكاء، الذي وصفته روزاليند بيكارد في كتابها

«Affective Computing» (1997)  بأنه محاولة لجعل الآلة “تفهم وتستجيب للعواطف الإنسانية”، لم يعد حبيس المختبرات، بل بات لاعبًا خفيًا في صياغة الأخبار والعناوين التي تتصدر شاشات الهواتف وصفحات الشبكات الاجتماعية.

تكمن خطورة العناوين العاطفية المولَّدة أو المُحسَّنة بالذكاء الاصطناعي في قدرتها على الجمع بين الإقناع الخفي والدقة الحسابية. فهي لا تكتفي بإثارة المشاعر عبر كلمات منتقاة بعناية، بل تُبنى على تحليل متعمق للأنماط النفسية والسلوكية للجمهور، مستفيدة من تقنيات «Natural Language Processing» وأدوات تحليل المزاج

(Sentiment Analysis)  التي وصفها ستيفن بيرد وآخرون في «Natural Language Processing with Python».  إن هذا المزج بين الحسابات الباردة والدفقات الحارة للمشاعر يخلق معادلة معقدة: كيف يمكن للخبر أن يبقى خبرًا إذا تحوّل العنوان إلى أداة تعبئة أو تحييد أو حتى تلاعب؟

الواقع أن هذه الظاهرة لم تأتِ من فراغ. ففي دراسة نشرتها مجلة

Nature Human Behaviour» عام 2021، تبيّن أن العناوين التي تحمل شحنة عاطفية قوية تحظى بنسبة انتشار أعلى بنسبة 17% على الأقل مقارنة بالعناوين المحايدة. وإذا أضفنا إلى ذلك قدرة أنظمة الذكاء الاصطناعي على اختبار آلاف الصيغ في ثوانٍ للوصول إلى النسخة الأكثر جذبًا وتوافقًا مع ميول الجمهور، ندرك أننا أمام قوة تأثير تكاد تلامس مفهوم “الهندسة النفسية” للرأي العام.

لكن، كما أن السيف يقطع من جهتين، فإن هذا الاستخدام يثير أسئلة أخلاقية ملحّة. هل نحن بصدد تطوير إعلام أكثر قدرة على التواصل الإنساني، أم أننا نفتح الباب أمام “تأطير” الجماهير في قوالب شعورية محددة؟

إن التجارب التاريخية، من الدعاية السياسية في ثلاثينيات القرن الماضي إلى الحملات الرقمية المعاصرة، تؤكد أن تحريك العاطفة في العمل الإعلامي قد يتحوّل من أداة للتوعية إلى وسيلة للهيمنة. وفي هذا السياق، تذكّرنا أفكار نعوم تشومسكي في «Manufacturing Consent»  بأن السيطرة على السياق الذي يُقدَّم فيه الخبر أخطر أحيانًا من مضمون الخبر نفسه.

لا يمكن إنكار أن الذكاء الاصطناعي العاطفي قد يفتح إمكانات إيجابية، مثل تعزيز الارتباط العاطفي بين الصحافة والجمهور، أو تحسين سرد القصص الإنسانية، أو زيادة التفاعل مع قضايا إنسانية مُهمّشة. ومع ذلك، فإن هشاشة الحدود بين التأثير المشروع والتلاعب الخفي تتطلب وضع أطر حوكمة واضحة. فقد بدأت بعض المؤسسات الإعلامية، مثل «BBC» و»The Guardian»، بوضع سياسات تحريرية تحد من الإفراط في استخدام التحليل العاطفي الآلي في صياغة العناوين، لضمان ألا يتحول الخبر إلى مجرّد “مصيدة نقرات” تُلهب المشاعر دون أن تغذي المعرفة.

من جهة أخرى، يمكن النظر إلى المسألة من زاوية فلسفية أعمق: هل نحن بصدد أنسنة الآلة أم أتمتة الإنسان؟ إن استدعاء صورة العنوان كـ“بوابة” لم يعد مجرد استعارة أدبية، بل توصيف دقيق لعالم يدخل فيه القارئ إلى نصوص بُنيت خصيصًا لتثير انفعالاته المفضّلة أو مخاوفه الدفينة. وربما، كما كتب فالتر بنيامين عن “أثر العمل الفني في عصر الاستنساخ التقني”، سنحتاج اليوم إلى بحث أثر العمل الصحفي في عصر الاستنساخ العاطفي.

إن مستقبل العناوين العاطفية في ظل الذكاء الاصطناعي لن يُحدَّد فقط بقدرة التكنولوجيا على إقناعنا أو جذب انتباهنا، بل بمدى قدرتنا نحن على مقاومة غواية العاطفة عندما تتحوّل إلى سلعة. وفي النهاية، سيبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن أن نحافظ على صحافة مسؤولة في زمن أصبح فيه الخيط الفاصل بين الإعلامي والمبرمج، وبين الخبر والنص المولَّد، رفيعًا كالشعرة، ولكنه قادر على قلب اتجاه الرأي العام كما تقلب الرياح مسار طائرة في الجو؟

0 التعليقات: