الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أبريل 17، 2025

«عن عولمة التوجهات في زمن المنصات الاجتماعية» عبده حقي


لم أعد أستطيع تمييز ما إذا كانت الموضة تنطلق من نيويورك لتصل إلى الرباط، أم أنها تولد في خوارزميات "تيك توك" لتُستهلك لاحقًا في الدار البيضاء، وتُعاد صياغتها في سيول أو مومباي. لم أعد أرى الفوارق الجغرافية كما كنت في السابق؛ صار الزمن رقميًّا، وساحة التأثير لم تعد حكراً على دور الأزياء أو حتى على الفنانين الكبار، بل باتت شابة من قرية نائية تضع "فلترًا" على وجهها وتنتظر أن تحظى فيديوهاتها بملايين المشاهدات.

لقد غيّرت المنصات الاجتماعية مثل إنستغرام، تيك توك، سناب شات، ويوتيوب موازين القوى الثقافية عالميًا، وفرضت ما يمكن تسميته بـ"عولمة الذوق اليومي". لم تعد الميولات تخضع لبطء الانتقال الثقافي الذي كان يستغرق سنوات أو عقودًا، بل أصبحت خاضعة للإيقاع اللحظي للهاشتاغ والـ "ريلز". في مقالها المنشور في «The Atlantic، تقول أماندا مول: "لم تعد الموضة مرآة للمجتمع فقط، بل أصبحت انعكاسًا لحالة الترند الرقمي، حتى وإن كان زائفًا أو مؤقتًا". وهي حقيقة أصبحت ملموسة حتى في تفاصيل سلوكياتنا اليومية: نوع الموسيقى التي نسمعها، طريقة ترتيب طاولة الطعام، وحتى الطريقة التي نضحك بها.

في زمن التلفاز، كان هناك نوع من المركزية الثقافية تُفرض من الأعلى: برامج، إعلانات، أفلام... كلها تأتي من الغرب غالبًا، وتُعاد دبلجتها كي تصلنا بعد أن تفقد جزءًا من بريقها. أما اليوم، فنحن نعيش ثورة ثقافية قاعدية، صاعدة من الهامش، لكنها لا تقل اختراقًا. الراقصة السنغالية التي تصنع تحديات الرقص على تيك توك قد تصبح مرجعية في سلوك ملايين المراهقين حول العالم، أكثر من أي نجم موسيقى تقليدي. التأثير هنا لا يأتي من الهيمنة الاقتصادية فقط، بل من القدرة على التحكم في ما يسميه «مالكولم جلادويل» ب "نقطة التحول" في كتابه  «The Tipping Point، أي لحظة اشتعال الفكرة وانتشارها كالنار في الهشيم.

لكن، هل هذه العولمة الرقمية للتوجهات الثقافية تعني نهاية الخصوصية الثقافية؟ لست متشائمًا، بل على العكس، أرى أن هذا التدفق العالمي قد يخلق أشكالاً هجينة من التقاليد والميول، كما يحدث اليوم في تداخل "اللباس القومي" المغربي مع لمسات آسيوية، أو في انتشار الأكلات المغربية في مطابخ بيروت والدوحة ونيويورك، ولكن بطابع شبابي و"فيوجن". وهذا ما يُذكرني بما جاء في كتاب «Cultural Globalization and Its Effects on Society»  للباحث جون توملينسون، الذي أشار إلى أن "العولمة لا تعني نهاية المحلي، بل إعادة تشكيله ضمن سياق أوسع وأكثر تشابكًا".

المفارقة المثيرة أن هذه العولمة لم تنتج عن رغبة سياسية أو تخطيط اقتصادي مدروس، بل كانت نتيجة لتفاعلات المستخدمين أنفسهم، لأشخاص عاديين أصبحوا مؤثرين فجأة. وهي مفارقة تُعيدنا إلى نظرية «Long Tail» التي تحدث عنها كريس أندرسون، والتي ترى أن المستقبل لا تحدده النخب الكبرى، بل ملايين الخيارات الصغيرة التي تُمثل اهتمامات شرائح دقيقة من الجمهور. نحن لم نعد ننتظر "الموضة من باريس"، بل نخلقها ونشاركها ونعدلها في غرفنا الخاصة.

رغم سحر هذا الواقع، إلا أنه لا يخلو من مخاطر. فسيطرة الخوارزميات على الذوق الجمعي قد تؤدي إلى نوع من «التماثل القسري»، أي ذلك التكرار الممل لنفس الشكل من الفيديوهات والموسيقى والمحتوى البصري، كما لو أن العالم صار يرتدي نفس القميص. هنا، تبرز أهمية النقد، والتحليل، والوعي بأن "ما هو رائج" ليس بالضرورة "ما هو أصدق" أو "ما هو أعمق". لقد تحوّلت المنصة من أداة عرض إلى أداة خلق هوية، ولا بد أن نُدرك بأن هويتنا لا يجب أن تُصاغ فقط داخل مقاطع مدتها ثلاثون ثانية.

إننا أمام لحظة تاريخية نادرة، لحظة يختلط فيها المحلي بالعالمي، ويذوب فيها التقليدي في الحداثي، وتتواجه فيها الحرية الشخصية مع ضغط التصفيق الرقمي. وفي هذه اللحظة، يجب علينا أن نتعلم كيف نُميّز بين ما هو اتجاه صاعد من قلب المجتمع، وما هو منتجٌ مصطنعٌ لخوارزميات هدفها الوحيد هو إبقاؤنا نُحدّق في الشاشات أطول وقت ممكن.

ما يحدث اليوم ليس مجرد "عولمة للتوجهات"، بل ثورة في مفهوم التأثير ذاته. ثورة تضع الهاتف الذكي مكان المنصة الإعلامية، وتجعل من كل فرد مشروع رمز ثقافي عالمي، شريطة أن يعرف كيف يركب الموجة. لكن، كما في كل بحرٍ مفتوح، ليست كل الموجات تستحق الركوب. البعض منها زائف، والبعض الآخر عميق وجارف، وقد يقود إلى غرقٍ ناعمٍ في ضياع المعنى.

هل نملك الشجاعة كي نصنع توجهاتنا بدل أن نستهلكها؟ هذا هو التحدي الحقيقي.

0 التعليقات: