الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، أبريل 16، 2025

"غيتار يطفو... وإصبع يلوّح للعدم" نص سردي : عبده حقي


في زقاق ضيّق من أزقة مدينة لا تظهر على خرائط غوغل، جلسنا على طرفي طاولة زجاجية تطفو في الهواء. أحدنا كان يلوّح بإصبعه للعدم كما لو أنه يؤنّب غيمة عابرة، والآخر يعزف نغمة منسية على غيتار من خشب الذاكرة. لم تكن الطاولة موضوعة على أرض، بل كانت تطفو بثقة بين طبقات الضوء، وكانت خلفية المشهد لوحة زيتية لا تكتمل إلا إذا نظرنا إليها مغمضي العينين.

قلنا لبعضنا – ووجوهنا تشتبك بين نظرات شاعر وملامح نجار كتب قصائده بالمسمار 

"نحن لا نؤمن بالحدود... كلّ ما هو مرسوم على الورق قابل للمحو، حتى نحن."

ولم نكن نعزف للناس، بل للذكريات التي تختبئ في جيوب الريح.

في تلك اللحظة، مرّ طائر بلون العاج وذيل يشبه شريط كاسيت قديم. نزل واستقر بيننا، ثم بدأ يغني بصوت يشبه كثيراً صوت كريستوفر كروس حين يغني *Sailing*، لكنه كان يهمس الكلمات بلغةٍ لا تُكتب.

سألنا أنفسنا، ونحن نضبط نظارتنا الشفافة بإيماءة خفيفة: 

"هل نحن في قصيدة، أم في حلم شاعر نسي أن يستيقظ؟"

وضحكنا، بصوت يقطر هدوءاً، وقلنا: 

"ربما نحن في أغنية... كتبناها منذ عشرين سنة، ثم ضيّعناها بين صفحات دفتر الشيكات."

بدأت الطاولة تدور بنا ببطء، كأنها مركب في بحر ساكن. حولنا، كانت الأزمنة تتكوم في ركن من المقهى الطائر، تتبادل فناجين القهوة وتتهامس عن عصر لم يُخلق بعد. في الزاوية، جلس طفل يحمل بيده وردة من دخان، ويخط على الجدران كلمات لا تُقرأ إلا إذا وضعنا قلوبنا تحت المجهر.

قلنا، ونحن نضبط أوتار الذاكرة: 

"كنا مرة في حفلٍ على سطح ناطحة سحاب في نيو أورلينز. كان الجمهور مكوناً من أشجار سرو ونوافذ مهجورة، ومع ذلك صفقوا لنا."

وفي مناسبة أخرى، قرأنا قصائدنا في مهرجان شعري داخل كتاب مغلق، كل قصيدة كانت تصرخ لتُقرأ، وكنا نرتّلها للصفحات لا للناس.

 

ثم أخرجنا ورقة مطوية من جيب الريح وقلنا: 

"هذا نص لم يُكتب بعد، نحمله دائماً معنا كي لا ننسى أننا لسنا مكتوبين أيضاً."

وضبطنا أوتار الغيتار، التي بدأت تتحوّل إلى خيوط ضوء، وقلنا: 

"دعونا نكتبه معاً... لكن بلغة لا يعرفها سوى الضباب."

وأخذنا نكتب: حرفاً يشبه الناي، وكلمة تتلوى مثل أفعى تحرس قصائد الجاهليين، وجملة تشبه قبعة من القش تحت المطر. كتبنا حتى استحال النص سلماً، بدأ يرتفع بنا نحو طبقة أعلى من الغيم. من هناك، كان بإمكاننا رؤية الكرة الأرضية على شكل بالونة في يد طفل يضحك في مدينة مغربية.

سألنا بعضنا: 

"ماذا لو عزفنا الآن، هل ستبكي الشمس؟"

فأجبنا: 

"لا... لكنها سترقص."

ثم فجأة، تهشمت الطاولة إلى قصائد، والغيتار إلى أنغام، والقبعة إلى طيور، واختفينا داخل نص لم يُطبع بعد، يُقال إنه موجود فقط على الصفحة الأخيرة من دفتر أحلام كل من حلم ذات مساء أن الموسيقى تستطيع كتابة الشعر، وأن الشعر يمكن أن يُغنّى.

ومنذ ذلك الحين، يُحكى أن كل من يرتدي قبعة في نهار غائم، أو يرفع إصبعه للسماء وهو يتحدث عن الحقيقة، ربما لا يدري أنه يكرر مشهداً لم يحدث... أو ربما حدث فقط في قصة كتبناها ذات غفوة، ولحنّاها فوق سطح سحابة.

0 التعليقات: