قرأت كتاب "الفلسفة في الجسد" وكأنني أعيد اكتشاف نفسي، لا كمجرد عقل مفكر، بل ككائن متجسد تُصاغ أفكاره من خلال لحمه، وعظامه، وحواسه، وتجربته اليومية.
منذ الصفحات الأولى، بدا لي جورج لايكوف ومارك جونسون كأنهما يهدمان معبدًا كاملاً من التصورات الفلسفية التي طالما وضعناها على عرش "العقل المجرد"، ليشيّدا مكانه بناءً أكثر بشرية، أكثر واقعية: الفلسفة المتجسدة.
الفكرة المحورية التي
شدّتني هي أن الإدراك البشري ليس مجرد عملية عقلية مستقلة عن الجسد، بل هو متجذر في
تجاربنا الجسدية. هذا التحول من الفلسفة التقليدية إلى ما يسميه الكاتبان "الفلسفة
المتجسدة" لم يكن مجرّد تطوير في الخطاب، بل أشبه بثورة معرفية تطال اللغة، والمعنى،
والأخلاق، والوعي، بل وحتى تصوراتنا عن الزمن والمكان.
لعل أكثر ما أثّر فيّ
هو التحليل العميق الذي قدّمه الكاتبان لكيفية تشكّل المعاني عبر «الاستعارات المجازية»
المتجذرة في الجسد. لم أعد أستطيع استخدام عبارات مثل "أنا في قمة سعادتي"
أو "أشعر بالضغط" دون أن أتذكّر أن هذه التعبيرات ليست مجرد بلاغة، بل انعكاس
مباشر للطريقة التي نعيش بها التجربة فيزيائيًا ونفسيًا. بالنسبة للايكوف وجونسون،
فإنّ معظم مفاهيمنا المجردة تُبنى على استعارات جسدية. "الحجة هي حرب"،
"الزمن هو مال"، "المكانة الاجتماعية هي علّو"... كلها استعارات
تُبنى على تجارب جسدية حقيقية.
في أحد الفصول، ناقش
المؤلفان حدود العقلانية الغربية، وذهلت عندما وصفا كيف أن الفلسفة الغربية منذ ديكارت
وحتى كانط، قد ارتكزت على افتراض خاطئ: أن العقل مستقل عن الجسد. هذا الطرح لم يكن
نقدًا عابرًا، بل استند إلى دراسات في علم الأعصاب، واللسانيات المعرفية، وعلم النفس
التطوري. هنا تتقاطع الفلسفة مع العلم، لا بوصفها تنظيرًا محضًا، بل بوصفها ممارسة
معرفية تتغذى من جسد الإنسان ودمه.
ما أعجبني أكثر هو
الطابع الشامل للكتاب. فهو لا يكتفي بتحليل اللغة والمعنى، بل يتناول أيضًا الأخلاق،
والدين، وحتى السياسة. يؤكد المؤلفان أن تصورنا الأخلاقي ليس مجرد قرارات عقلانية،
بل نابع من إحساسنا بالعدالة، والرحمة، والانتماء، وهي كلها مشاعر مرتبطة بتجارب جسدية
وانفعالية. إن هذا الطرح يعيد للإنسان إنسانيته الكاملة، ويُسقط صورة "الفاعل
العقلاني المجرد" التي طالما اعتبرناها النموذج الأعلى للفكر.
حين أغلقت الكتاب بعد
قراءة فصوله الكثيفة، شعرت أنني تغيرت. لم أعد أرى الفلسفة كما كنت أراها سابقًا. لم
أعد أتعامل مع اللغة وكأنها كيان محايد، بل كأداة مغروسة في جسدي، محكومة بالثقافة،
والتجربة، والعاطفة. ولا أخفي أن هذا الإدراك جعلني أكثر تواضعًا في فهمي للمعرفة،
وأكثر إنصاتًا لما يقوله جسدي، بصمته، وانفعالاته، وحركاته.
في زمن تُهيمن فيه
التصورات التقنية والعقلانية الصرفة، يأتي كتاب "الفلسفة في الجسد" ليعيد
التوازن، ويذكرنا أننا لسنا عقولًا تمشي، بل أجسادًا تفكّر. وربما في هذا الاعتراف
البسيط يكمن أحد أكبر
إنجازات الفلسفة المعاصرة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق