الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، أبريل 16، 2025

«مخاوف الذكاء الاصطناعي: بين فوبيا المستقبل وانعكاسات الحاضر» ترجمة عبده حقي


كثيرا ما راودني سؤالٌ لم أجد له إجابة شافية ونهائية: لماذا نخاف الذكاء الاصطناعي؟ هل هي مخاوف مبررة تستند إلى معطيات واقعية أم أنها مجرد إسقاطات لعجزنا عن استيعاب التحولات التكنولوجية المتسارعة؟ كلما تصفحت مقالات أو تابعت نقاشًا محتدمًا حول الذكاء الاصطناعي، وجدت أن الحبر المسكوب لا يعكس بالضرورة عمق الفهم، بل يشي أحيانًا بهلع جماعي غير محسوب.

في الواقع، بدأت ملامح القلق من الذكاء الاصطناعي تظهر منذ أن صاغ آلان تورينغ في أربعينيات القرن الماضي فكرته الثورية: "هل يمكن للآلة أن تفكر؟". ومنذ ذلك الحين، لم تهدأ النبرة التحذيرية. في السنوات الأخيرة، تضاعف هذا التوتر بعد إنجازات لافتة مثل نموذج ChatGPT وMidjourney، وظهور خوارزميات قادرة على الترجمة الفورية، والتوليد الإبداعي للنصوص، وحتى رسم الصور والتأليف الموسيقي. لقد أصبح السؤال ليس فقط إن كانت الآلة تفكر، بل: هل يمكن للآلة أن تُبدع؟ وإن أبدعت، فما مصير المبدع البشري؟

قرأت منذ مدة مقالًا في «The Atlantic» بعنوان "The Anxiety of the AI Age"، تحدث فيه الكاتب عن ما وصفه بـ"الاغتراب التكنولوجي"، وهو شعور يشبه إلى حد كبير ارتباك الإنسان البدائي أمام النار لأول مرة. هذا التشبيه بدا لي بالغ الدقة، فنحن أمام نار جديدة: نار اصطناعية، تتغذى على البيانات وتنتج معرفة مركبة بسرعة تتجاوز قدراتنا على الاستيعاب.

إلا أنني لا أتبنى بالكامل خطاب التخويف الذي تبنته شخصيات معروفة مثل إيلون ماسك أو الراحل ستيفن هوكينغ، حين وصفا الذكاء الاصطناعي بأنه "تهديد وجودي". نعم، هناك حاجة لضوابط أخلاقية وتشريعات حامية، لكن خطاب النهايات الوجودية يضخم من صورة الذكاء الاصطناعي ويمنحه قوة أسطورية.

كما أشار الباحث «Yuval Noah Harari» في كتابه «Homo Deus»، نحن لا نخاف الآلة لأنها قوية، بل لأننا عاجزون عن فهم الكيفية التي يمكن بها لتقنيات مثل التعلم العميق أن تتخذ قرارات ذات طابع أخلاقي.

يخيل لي أحيانًا أن الذكاء الاصطناعي أصبح مرآة ضخمة، تكشف هشاشتنا الفكرية، وانبهارنا الخادع بالتقنية، دون فهم جوهري لما نخلقه. ففي حالات كثيرة، ما نسميه "ذكاء اصطناعي" لا يتجاوز أنظمة تصنيف إحصائي متقدمة، تعتمد على تكرار الأنماط، لكنها تفتقر إلى الوعي الذاتي أو الحس الجمالي أو المسؤولية الأخلاقية. وإذا كانت هناك مخاوف حقيقية، فهي لا تنبع من قدرة الآلة بقدر ما تنبع من نوايانا نحن في توظيفها.

 

الكاتب الفرنسي «Jean-Gabriel Ganascia» في كتابه «Le Mythe de la Singularité»، ناقش فكرة "التفرد التكنولوجي" التي روج لها البعض، أي اللحظة التي يتجاوز فيها الذكاء الاصطناعي العقل البشري. وأكد أن هذا التصور مليء بالمبالغات، لأن الذكاء البشري ليس مجرد حسابات بل منظومة متكاملة من العواطف والتجربة والتاريخ. لذلك، فإن رعبنا من أن تحل الآلة مكان الإنسان قد يعكس نظرتنا المختزلة للذات الإنسانية أكثر مما يعكس قدرات الذكاء الاصطناعي.

ما يُخيفني أكثر من سيطرة الآلة هو التواطؤ البشري مع التقنية في إنتاج التهميش. فالتشغيل الآلي لبعض الوظائف، وإن بدا خطوة نحو التقدم، قد يقضي على ملايين من فرص العمل في الدول النامية التي لم تتأقلم بعد مع الثورة الرقمية. ما الفائدة من أن نُطور خوارزميات تتحدث عشر لغات إذا كان نصف سكان الكوكب لا يمتلكون اتصالًا مستقرًا بالإنترنت؟

في المقابل، لا يمكننا إنكار الجانب المضيء. فالذكاء الاصطناعي يساهم اليوم في تسريع اكتشاف الأدوية، وتحليل التغيرات المناخية، وتطوير أدوات المراقبة الصحية، وتحسين الوصول إلى المعرفة والتعليم. لكن كل هذه الإنجازات تظل ناقصة إذا لم تُرافقها رؤية فلسفية وإنسانية تُحدد حدود الآلة وتُعيد للإنسان مكانته كصانع معنى لا مجرد مستخدم أداة.

لذلك، لا أرى أن الخوف من الذكاء الاصطناعي مبرر دائمًا، ولا أنه مجرد وهم. هو إحساس مركب، خليط من الحدس المشروع والخوف من المجهول، شبيه بذلك الشعور الذي كان ينتاب البشرية مع كل منعطف تاريخي كبير. لكن ما سيُحدد مستقبلنا مع هذه التقنية ليس قدراتها، بل اختياراتنا الأخلاقية والسياسية والثقافية.

في النهاية، لا بد من تربية جيل يُجيد فهم التقنية دون أن يقدسها، ويُمارس النقد دون أن يقع في فخ الرجعية، جيل يعرف أن الذكاء ليس حكرًا على الكودات البرمجية، بل هو أيضًا القدرة على طرح الأسئلة، وتخيّل الأجوبة، والتفاعل مع العالم بروح منفتحة ومتزنة. وهذا هو التحدي الحقيقي في زمن الذكاء الاصطناعي.

0 التعليقات: