الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أبريل 17، 2025

سيدي إفني تكتب قصيدتها في قعر فنجان: عبده حقي


ها أنا، العابر بين قهوتين وغيمتين، أسير على حبلٍ مشدود فوق فضاء سائل يُدعى سيدي إيفني. لا أدري من أي كوكب هبطت قبّعتي الحمراء ولا أي كائن حلمي دسّ نظارتي السوداء في جيب نجمٍ مسافر.

جلست، أو بالأحرى انسكبت على مقعدٍ ليس له ظلّ، مقهى عالٍ كأنه محطة في صدر السماء، يطل على شاطئ يكتب نفسه بماء لا يحفظ الذاكرة.

لم يكن البحر أمامي، بل كان يخرج من أذني بهديره، يتبخر من مسامي، يهمس لي أن كل شيء تحت سيطرة اللحظة ، حتى الهروب.

وعلى الطاولة، صحن صغير، لا يحمل بقايا قهوة بل آثار شفة امرأةٍ لم تأت بعد. كانت الرغوة بصمة نيزكٍ عبر روحي وتركني أعدّ خطواته على صفحة الزمن المتجعدة.

قهوتي؟ لا. لم أحتسيها كمشروب. احتسيتها كحشرة شفافة تسير على جبيني، ككلمة تُهمَس في قاع جمجمة، كمعزوفة من نايٍ أعمى.

ارتشفتها كما يرتشف العاشق ذاكرة حبيبته الغائبة، لا ليشبع، بل ليتأكد أنه لم يستيقظ بعد من الحلم.

هناك، في أعماق الموج، كان شيء ما يشبهني يلوّح لي. ربما كنت أنا، وربما كنت ظلّي الذي قرر الهجرة نحو البلل.

وحقيبتي تتدلّى من كتفي كأرملة حربٍ رفضت أن تنجب، وزجاجة الماء كانت مرآة لعطشي نحو الوهم، لا نحو الحياة.

من هذا الارتفاع الشاهق ، كانت المدينة لوحة مغناطيسية تتحرك بتنهيدة، والناس كخرائط تتآكل أطرافها في المطر. كل شيء حقيقي لدرجة الهلوسة. السماء ضيقة كجملة ناقصة، والرمل يضحك في سرّه على الذين يحاولون جمعه في قصائد.

أنا لست هنا.

لا أحد يعرف أنني أكتب. أنا لا أكتب، بل أتلفظ بنجوم وكلمات على المائدة. كل جملة هي سفينة، وكل نقطة نهايةٌ لفصلٍ لم يبدأ. اللحظة نفسها كانت كائنًا يتنفس إلى جانبي، يسعل، ويطلب قدحًا من النسيان.

سيدي إيفني ليست مدينة، إنها وردة مغموسة في الحبر الأبيض والأزرق، تنبت من جبين الأرض كلما تعب الشعراء من الصراخ. لم تأخذني المدينة، بل أنا الذي توزّعت على أرصفتها كحروف مجنونة ترفض النحو والمنطق. لم أكن عاشقًا، كنت صيغةً طيفيةً من العبور. مدينة تلتقطك كما يلتقط الحلم حذاءه قبل أن يهرب من الذاكرة.

القهوة انتهت؟ لا.

لقد اختبأت في وريدي، تسافر الآن إلى دماغي لتقنعه بأن الوقت ليس زمنًا. الهدوء بقي هنا، على الطاولة، على الشرفة، في الزبد الذي عاد إلى حضنه. سأعود، لكن ليس بقبعة جديدة، فقط بظلّ يمتدّ على الرمل ويضحك.

كنتُ نغمةً ضاعتْ 

في جيبِ ريحٍ تحترفُ النسيانْ 

كنتُ كأسَ قهوةٍ مقلوبْ 

وشرفةً تشربُ الشكَّ من الموجِ العائدِ خائبْ 

لا اسمي أنا، 

ولا المدينةُ تذكرُني 

لكنَّ القبعةَ الحمراء 

ظلَّتْ تلوّحُ للشمسِ من أعالي الغيابْ 

أنا ذا 

أكتبُ الماءَ بقلمٍ من زبد، 

وأرسمُ وجهي 

على ظهرِ سمكةٍ 

هربتْ من طبقِ الغدْ.


0 التعليقات: