أنا ابن هذا الوطن الجميل ، أجمل بلد في العالم ، أنتمي إلى ترابه وعراقته وثقافته، وأتنفس من هوائه الاجتماعي والتراثي وتقاليده الراسخة. لم أكتب هذا المقال دفاعًا عن طرف أو هجومًا على طرف آخر، ولا أنطلق من موقع سياسي أو أيديولوجي، بل من موقع مواطن مغربي يهمه مستقبل بلاده ويحرص على وعي مجتمعه الثقافي والسياسي .
لقد نشأت على قيم التعدد والتسامح، التي عشتها وشاهدتها متجسدة في حينا، في المدرسة، وفي مدينتنا العتيقة مكناس أو مدينتها العصرية التي تسمى "حمرية"، حيث يتعايش المسلم واليهودي والمسيحي واللاديني، في انسجام إنساني وحضاري لا تصنعه الخطابات بل الحياة نفسها بكل عفوية . وحين أتناول هذا الموضوع الحساس للغاية في هذه الظرفية السياسية العربية القلقة، لا أفعل ذلك لا بنية التبرير ولا بنية التخوين، بل بدافع الحاجة إلى غربلة الحوار العام من المغالطات، وإعادة النقاش إلى أرض الواقع والعقلانية، بعيدًا عن التهويل والتخويف.
إنني لا أعارض من يعارضون
التطبيع، ولا أؤيد من يصفقون له دون شروط. ما أرفضه بالأساس هو السقوط المدوي في الفانتازيا
السياسية التي تستخدم أحيانًا لتضليل الرأي العام أو ابتزازه عاطفيًا ووجدانيا.
إنه من حقنا جميعًا
أن نناقش الخيارات الكبرى لوطننا المغرب، لكن من واجبنا أيضًا أن نفعل ذلك بشجاعة فكرية،
لا بخطاب العدمية أو التخويف المجاني.
منذ إعلان استئناف
العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل في ديسمبر 2020، عاد الجدل القديم-الجديد
حول مسلسل التطبيع إلى الواجهة، حاملاً معه تداعيات واسعًة من الآراء والمواقف. وبينما
تحاول فئة من المغاربة النظر إلى هذه الخطوة من منظور استراتيجي يخدم المصالح العليا
للبلاد، يروج البعض الآخر، من معارضي هذا التقارب، لخطاب يخلط بين التخوف المشروع والافتراء
السياسي، ومن أكثر المزاعم غرابة وابتعادًا عن المنطق، الادعاء بأن دولة إسرائيل قد
“تنتقل إلى المغرب” أو أنها تسعى من خلال تقاربها مع بلادنا لتحويل المملكة إلى وطن
بديل في المستقبل البعيد وفق أجندة سياسية ذكية واختراقية
في صمت ودهاء...
إن هذا الادعاء، الذي
لا يستند إلى أي أساس تاريخي أو جيوسياسي أو قانوني، يكشف أكثر عن أوهام المؤامرة من
كونه قراءة تحليلية واقعية.
في هذا المقال، سنفند
هذا الخطاب اعتمادًا على معطيات موضوعية، وسنوضح خلفياته الأيديولوجية ومآلاته على
الوعي السياسي في المغرب والمنطقة العربية ككل.
إن العلاقات المغربية-الإسرائيلية
ليست وليدة اليوم، بل تعود جذورها إلى ما قبل استقلال المغرب. فمنذ خمسينيات القرن
الماضي، كانت هناك قنوات تواصل واتصال بين الجالية اليهودية المغربية في الكيان إسرائيلي
الحديث والمملكة المغربية، في إطار إنساني وثقافي وعائلي، قبل أن تتخذ لاحقًا أبعادًا
سياسية واستراتيجية.
وعند استئناف العلاقات
عام 2020، كانت المصلحة الوطنية للمملكة المغربية واضحة: اعتراف أمريكي بسيادة المغرب
على الصحراء الغربية، وتوسيع لفرص التعاون الاقتصادي والتكنولوجي مع دولة تملك نفوذًا
دوليًا وشبكة ابتكارات واسعة.
فهل من المنطقي أن
تُجازف دولة ذات سيادة – المغرب - تمتد جذورها لأكثر من 12 قرنًا، بتاريخها العريق،
لكي "تستقبل" دولة أخرى فوق أراضيها؟
تقوم مغالطة
"ترحيل إسرائيل إلى المغرب" على فكرة أن إسرائيل كدولة لن تبقى في مستعمرتها
الجغرافية الحالية، على إثر أحداث حرب غزة الأخيرة وأنها تبحث عن "موقع بديل"
غرب شمال إفريقيا.
إن هذه الفرضية تفتقر
إلى أي سند واقعي وعقلاني ومنطقي حيث إن إسرائيل دولة معترف بها دوليًا، ولها مؤسساتها
وجيشها واقتصادها وأطياف مجتمعها .
إن فكرة "الترحيل"
هاته لا تنتمي إلى منطق الدول الحديثة، بل هي صورة ساذجة مستوحاة من الروايات الدينية
المتطرفة، لا من الوقائع السياسية.
كما أن إسرائيل،
رغم نزاعاتها الإقليمية مع جيرانها العرب، تملك استقرارًا داخليًا وأمنًا استراتيجيا
متينًا، وهي ليست في وضع "قلق التأهب للهروب" كما يحاول بعض ترويج الخطاب
المناهض للإيهام به.
أخيرا إن المغرب ليس أرضًا سائبة، بل دولة ذات شعب متماسك وسيادة وحدود واضحة
معترف بها دوليا تمتد من طنجة شمالا إلى مدينة الداخلة جنوب الصحراء المغربية، تحكمها
مؤسسات ملكية ودستورية وقانونية ، ولا يمكن أن يُفرض عليها أي "احتلال سلمي
أو حربي" كما يلمح البعض ضمنيًا وخصوصا المعارضين في الخارج ومجموعة
من مناهضي التطبيع والتيارات الإسلامية .
إن المزاعم التي يروّج
لها لفرضية "انتقال الإسرائيليين إلى المغرب" لا يمكن فصلها عن خطاب أيديولوجي
عربي قومي قديم يعتبر أن "كل علاقة مع إسرائيل هي خيانة للقضية العربية
الأولى"، ويعتمد على شيطنة الآخر بدل تفكيك الواقع بموضوعية.
كما أن هذا الخطاب،
الذي ورثناه من ثقافة الحرب الباردة ومن أدبيات قومية راديكالية، لا يعترف بتغير موازين
القوى ولا بالمصلحة الوطنية، ويرى في أي تقارب مغربي-إسرائيلي تهديدًا لهوية
المغرب ذات الثوابت الراسخة منذ 12 قرنا، لا فرصة لتحديث أدوات السيادة الوطنية في
عصر متغير في كل وقت وحين.
كما أن هذا الخطاب
لا يخلو من نزعة معاداة السامية المستترة، حيث يختزل اليهود -بمن فيهم اليهود المغاربة-
في صورة العدو الدائم، دون اعتبار لانتمائهم التاريخي للمغرب كمكون من مكونات الهوية
الوطنية.
ينبغي إذن أن نفرّق
بين التطبيع كقرار سياسي خاضع للمصالح الوطنية، وبين الهرولة أو التبعية للقوى
العظمى. فما قام به المغرب هو استخدام ذكي للأدوات الدبلوماسية المتاحة لتحقيق مكاسب
استراتيجية، على رأسها ملف الصحراء الغربية.
ثم إن التطبيع لا يعني
إغلاق باب التضامن مع أشقاءنا الفلسطينيين في غزة وفي غيرها من المناطق المستعمرة،
كما أن معارضة التطبيع لا تعني تلقائيًا نصرة متهورة لدولة فلسطين ظالمة كانت أو
مظلومة. إن الواقع أعقد من هذه الثنائيات. فالمغرب، بتاريخه وموقعه وعمقه، لا يمكنه
أن يكون ساحة لحرب الآخرين بالوكالة، ولا ساحة لزرع الفتن الطائفية أو الأيديولوجية.
ليس من مصلحة المغرب
أن يبقى أسيرًا لمزاعم لا تمت للواقع بصلة. إن ادعاء أن إسرائيل قد "ترحل"
إلى المغرب هو تخويف وترهيب وتهويل مجاني لا يخدم سوى صناعة التهييج والتجييش
الشعبي وإشعال فتيل الفوضى داخل النسيج الاجتماعي المغربي . إن المطلوب اليوم هو قراءة
عقلانية للواقع، تعترف بتعدد المصالح وتشابك التحالفات، دون التفريط في الثوابت
العقائدية والتاريخية للمملكة.
فالمغرب، بحكمته التاريخية،
قادر على أن يوازن بين علاقاته الدولية ومبادئه القومية، وأن يكون فاعلًا لا مفعولًا
به. أما الذين ينشرون التخويف والأوهام على شكل “نبوءات سياسية”، فهم في الغالب يصرفون
الأنظار عن قضايا حقيقية تتطلب نضالًا ومساءلة حقيقية، لا فوبيا خيال مرضي لعل
أهمها الدفاع عن الوحدة الترابية للمغرب من طنجة إلى الداخلة والتعبئة اللامشروطة
لصد استفزازات بعض الجيران الذين لا يأخذهم نوم بسبب التقدم الاقتصادي والاجتماعي
والحقوقي الذي يعيشه المغرب من دون حاجته إلى ريع البترول أو الغاز ..إلخ
0 التعليقات:
إرسال تعليق