الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، أبريل 15، 2025

قراءة في كتاب «iGen» لجين توينج : ترجمة عبده حقي


لم يكن كتاب «iGen» مجرد قراءة عابرة بالنسبة لي، بل كان أشبه ما يكون بمرآة تعكس تحولاتٍ اجتماعية وثقافية كنت أراقبها بصمت، دون أن أمتلك المفاتيح النظرية التي تفسر عمقها. عندما التقطت الكتاب لأول مرة، لم أكن أتوقع أن أصطدم بهذا الكم من البيانات والتحليلات التي تُبرز، بدقة شبه جراحية، آثار التكنولوجيا الرقمية على جيل نشأ وهو يحمل الإنترنت في جيبه.

جين توينج، الأستاذة في علم النفس بجامعة سان دييغو، لا تكتفي في هذا العمل برصد الظواهر، بل تذهب أبعد من ذلك، محاولة بناء خريطة نفسية وسوسيولوجية لجيل تسميه "iGen"، وهو الجيل الذي وُلد بعد 1995. إن ما لفت انتباهي، منذ الصفحات الأولى، هو إصرار المؤلفة على الربط بين الهواتف الذكية والتغيرات السلوكية والاجتماعية التي طرأت على المراهقين، من قبيل العزلة، القلق، انخفاض مستوى السعادة، وحتى تصاعد معدلات الاكتئاب.

أعترف أنني في البداية كنت متشككًا في هذا التفسير الأحادي نوعًا ما، وكأن الهواتف الذكية أصبحت، في هذا التحليل، كبش فداء لكل الشرور. غير أن توينج لم تعتمد فقط على فرضيات، بل استندت إلى سلسلة من الدراسات والإحصائيات طويلة الأمد، بعضها صادر عن مؤسسات مثل  Pew Research Center، مما أضفى على أطروحتها مسحة من المصداقية يصعب تجاهلها.

من بين الفصول التي تركت فيّ أثرا عميقًا، ذلك الذي تناول «تراجع التفاعل الوجهي وزيادة العزلة الاجتماعية». تقول توينج، مستندة إلى بيانات دقيقة، إن المراهقين اليوم يقضون وقتًا أقل بكثير في اللقاءات الواقعية مقارنة بالأجيال السابقة، مقابل قفزة مهولة في عدد ساعات الاستخدام اليومي للهاتف. وكأن الفضاء الرقمي بات بديلاً عن الواقع، لكنه بديلٌ هشّ، بلا عمق ولا دفء.

لقد وجدتني أعود بذاكرتي إلى أيام مراهقتي، حين كنا نعيش التواصل بكل حواسه: الصوت، النظرات، اللحظات العفوية في الشارع أو المقهى. أما اليوم، فإن الكثير من الشباب يتبادلون "القلق" عبر الإيموجي، و"الاشتياق" عبر الستوري، في طقوس رقمية لا تُشبع الروح، بقدر ما تزيد من جوعها.

ومع ذلك، لا يمكن اعتبار الكتاب دعوةً للعودة إلى الماضي، أو رفضًا للتكنولوجيا بشكل قاطع. بل على العكس، تنبّه توينج إلى أن الهواتف ليست المشكلة في حد ذاتها، بل «طبيعة الاستخدام»، ومدى هيمنة هذا الجهاز على وقت ونمط تفكير المراهقين. هناك توازن مفقود، هذا ما تحاول الكاتبة قوله في كل سطر تقريبًا، وتحذرنا من أننا على أبواب أزمة تربوية وثقافية، إن لم نتحرك بحكمة.

ومن الزاوية التربوية، لفتني نقد توينج لتغير مفهوم «الاستقلالية». فالمراهق iGen بات أكثر تحفظًا، أقل ميلًا للمغامرة، وأطول بقاءً في كنف الأسرة. هل هذا ناتج عن وعي مبكر أم عن قلق مفرط من العالم الخارجي؟ هل هي حكمة أم خوف؟ أسئلة كثيرة تُطرح ولا تقدم الكاتبة أجوبة قطعية، لكنها تفتح الباب للتأمل.

بالرغم من تقديري العميق للكتاب، لا أنكر أنني كنت أتمنى لو فسحت توينج المجال لوجهات نظر شبابية أكثر، أو ضمّنت الكتاب مقابلات حية مع أفراد من هذا الجيل. لأن الحديث عن iGen من خارج تجربتهم الذاتية قد يحمل شيئًا من التعميم أو التغريب.

في نهاية القراءة، شعرت أن «iGen» هو بمثابة إنذار مبكر، لكنه لا يدعو إلى الذعر، بل إلى الوعي. نحن لا نعيش فقط تحولًا تقنيًا، بل «تحولًا في معنى الإنسان ذاته». ومع كل صفحة كنت أقلبها، كنت أزداد اقتناعًا بأن مسؤوليتنا، كمربين ومفكرين وكأفراد، هي أن نعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والآلة، بين الشاشة والروح.

0 التعليقات: