الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، مايو 10، 2025

كيف تصوغ الصحافة الرقمية وعينا بالصحة النفسية ؟ عبده حقي


حين أستعرض يومياتي الرقمية الممتدة بين المواقع الإخبارية ومنصات التواصل الاجتماعي، أجدني أقف وجهاً لوجه أمام سؤال ملحّ: هل أصبحت الصحافة الرقمية مجرد وسيط للمعلومة، أم أنها تحولت إلى شريك فعلي في صياغة وعينا النفسي وسلامتنا الذهنية؟ من هذا المنطلق، أشرع في تأمل العلاقة المعقدة بين الإعلام الرقمي والصحة النفسية، لا كأكاديمي ينقب في النظريات، بل كمغربي يشهد التحولات العنيفة في المشهد الإعلامي والوعي الجماعي على حد سواء.

لم تعد الصحافة الرقمية تُعنى فقط بنقل الأخبار أو صناعة "الترند"، بل باتت تلعب دوراً محورياً في تشكيل خطاب اجتماعي حول قضايا كانت تُعدّ حتى وقت قريب طابوهات مستعصية، وعلى رأسها الصحة النفسية. لقد خلقت هذه الصحافة فضاءات جديدة للكشف، والاعتراف، والتحليل، في مجتمعات لا تزال تلبس الاضطرابات النفسية عباءة العار أو الضعف. وهذا التحول لا يمكن فصله عن تطور الوعي العالمي والإقليمي بأهمية الصحة النفسية، كما تجلى في تقارير منظمة الصحة العالمية، التي حذّرت مراراً من ارتفاع معدلات القلق والاكتئاب، خاصة بعد جائحة كورونا.

في المغرب، ومع بروز منصات رقمية مستقلة مثل "ماروك ديبلوماتيك" أو "لوديسك" أو حتى الصفحات المتخصصة في الصحة على «إنستغرام» و»فيسبوك»، بدأنا نلاحظ تزايداً في المقالات والتحقيقات التي تتناول مواضيع مثل الاكتئاب، الانهيار العصبي، أو اضطرابات الهوية. بل إن بعض الصحافيين بدأوا يجرّبون الكتابة بلغة شخصية حميمية، تقارب أسلوب الاعتراف، مما يُحدث أثراً عاطفياً ومعرفياً معاً لدى القارئ. لقد أصبحت القصص الفردية، لا الإحصاءات الباردة، هي ما يحفّز التعاطف ويوسّع دوائر الفهم.

إننا إزاء تحول سردي كبير. ولعل النموذج الأبرز هو الصحافية اللبنانية جمانة حداد، التي دمجت في كتاباتها تجربتها مع القلق الوجودي لتربط الخاص بالعام، الفردي بالمجتمعي. هذه النزعة تظهر اليوم عند صحافيين مغاربة شباب يكتبون عن تجربة التوتر المزمن، الضغط الدراسي، أو العزلة في المدن الكبرى، كل ذلك بلغة ترفض التشخيص الطبي الجاف، وتبحث عن بلاغة الألم الإنساني.

لكن هذا الدور الذي تلعبه الصحافة الرقمية لا يخلو من التحديات. فهناك خطر السطحية حين يتم تناول معضلات نفسية معقدة بصيغة مقالات قصيرة تحابي خوارزميات النقر والمشاركة. كما أن بعض المحتويات، وخاصة في المنصات غير المتخصصة، تروج لمفاهيم مغلوطة أو اختزالية عن الاكتئاب أو العلاج النفسي، مما قد يكرس وصمة المرض بدل أن يفككها.

هنا يظهر الدور الحاسم للصحافي المتمكن من أدواته: ذاك الذي يدرك التداخل بين الإعلام والصحة، بين اللغة والخطر، بين الإثارة الإعلامية والمسؤولية الأخلاقية. وقد أشار الباحث الأمريكي «فينسنت موزيكا» في دراسته المنشورة بمجلة «Journalism Studies» إلى ضرورة تكوين الصحافيين في أساسيات الصحة النفسية، ليس فقط لتجنب التضليل، بل لحماية أنفسهم أيضاً من "عدوى القلق" أثناء تغطية قصص الانتحار أو العنف النفسي.

الجانب المشرق في كل هذا هو أن الصحافة الرقمية، بخلاف نظيرتها الورقية، تتيح تفاعلاً فورياً مع القراء، مما يخلق ما يمكن تسميته بـ"شبكات التضامن النفسي غير الرسمي". التعليقات، الرسائل، الأخبار المرتدة من القراء، كلها تفتح إمكانات للتواصل والاعتراف والدعم العاطفي، ولو كان ذلك عبر شاشة باردة. وهنا يكمن البُعد الإنساني العميق الذي تمنحه الرقمنة للصحافة.

أعتقد أن الصحافة الرقمية اليوم في المغرب ليست مجرد مرآة تعكس أوضاع الصحة النفسية، بل هي أيضًا مطرقة تنقر على جدران الصمت، تزعزع الموروثات الاجتماعية البالية، وتطرح أسئلة ضرورية: لماذا نخاف من زيارة طبيب نفسي؟ لماذا يُختزل الحزن في ضعف؟ لماذا يُمنح الجسد كل هذه العناية، بينما تُهمَل الروح تحت مسمى "الصبر" أو "الرضا بالقضاء"؟

ككاتب ومواطن، أراهن على صحافة تكتب من داخل الحياة، لا من أبراج المراقبة. صحافة تملك شجاعة الاقتراب من الألم لا لتجميله، بل لفهمه وتفكيكه. لأن وعيَنا النفسي لا يتشكل فقط في العيادات أو المدارس، بل في المقالات التي نقرؤها، في الأخبار التي تروى، وفي المساحات التي نُمنح فيها حق البوح دون خوف من التشخيص أو التنمر.

هكذا تتحول الصحافة الرقمية، في أفضل تجلياتها، إلى شريك في العلاج الجماعي، إلى بوصلة تنبهنا أننا لسنا وحدنا، وأن السؤال عن "كيف حالك حقاً؟" يمكن أن يبدأ من خبر، من بودكاست، أو حتى من تعليق مجهول على هامش مقال عابر.

0 التعليقات: