منذ أن بدأت أعي سلطة الحرف، لم أكن أتخيل يومًا أن القصص يمكن أن تهاجر من الورق إلى المختبرات، ومن الحبر إلى الجينات. لكننا نعيش لحظة عجيبة، حيث لم يعد الأدب مجرد منتج ثقافي تُسطره الأيادي، بل أصبح بنية قابلة للضغط والتشفير، مخزّنة في لوالب الحياة ذاتها. الحديث عن تخزين الأدب داخل الحمض النووي ليس خيالًا علميًا فقط، بل تحول فعلي يقلب مفهوم السرد من شكل خطي إلى شكل عضوي، متفرّع، يشبه جذور شجرة عتيقة أو شبكة عصبية فائقة الحساسية.
ففي العام 2012، قام
الباحث "جورج تشيرش" من جامعة هارفارد، بتخزين كتابه «Regenesis» داخل شريط من الحمض النووي، مستندًا إلى تقنية تقوم
على تحويل البيانات الرقمية إلى رموز جينية تتألف من القواعد الأربع للحمض النووي.
:
A،
T، G، C. هكذا، أصبح من الممكن أن تُترجم الكلمات إلى أكواد
بيولوجية، لا تُقرأ فقط من قِبل البشر، بل من قِبل الحياة ذاتها.
لقد أثار هذا التحول
في داخلي سؤالًا مزلزلًا: ماذا يعني أن نحكي قصة داخل جين؟ هل نُخضع السرد نفسه لقوانين
البيولوجيا، فنخلع عنه زمنيته الخطية ونلبسه عباءة اللاتناهي؟ إن النسيج السردي الذي
عرفناه في الرواية أو القصة القصيرة، بحدودها الزمنية والمكانية، يصبح أكثر مرونة عندما
يُشفّر داخل الحمض النووي. فبينما نقرأ رواية عادة من بدايتها إلى نهايتها، فإن قصّة
مخزّنة في الحمض النووي قد تُقرأ حسب الخيط الذي تُستخرج منه، أو تُعاد كتابتها بجينوم
مختلف، لتنتج معناها من تموضع جديد، ومن سياقات متعددة.
القراءة هنا لم تعد
مجرد فعل ذهني، بل أصبحت تجربة بيولوجية تشبه الغوص في محيط سري، حيث لا نقرأ الكلمات
فقط، بل نقرأ كيف تنبض الحياة بها. إنها سردية غير خطية بالمعنى الحرفي، لأننا لا نتبع
تسلسلاً زمنيًا، بل مسارًا جزيئيًا، تتشابك فيه المعلومات مثلما تتشابك الذاكرة في
عقل مصاب بالحلم.
وفي هذا السياق، يستوقفني
ما أشار إليه الباحث "روبرت غرين" في كتابه
«Future Histories،
حين تحدث عن إمكانية تحوّل النصوص إلى أشكال من "الذكاء البيولوجي"، بحيث
لا نقرأ الرواية فقط، بل نحياها بطريقة عضوية. تخيلوا مثلًا أن تُحفظ روايات نجيب محفوظ،
أو شعر محمود درويش، داخل الحمض النووي لطفل مغربي يولد بعد قرنين من الآن، فتكون الحكاية
مزروعة داخله كما تُزرع الوراثة واللغة والأحلام.
هذا التقدم ليس فقط
مسألة تقنية، بل هو أيضًا انقلاب فلسفي في مفهوم الأدب نفسه. فالذاكرة الجماعية لم
تعد تُخزن في المخطوطات أو على أقراص صلبة، بل قد تُخزن يومًا ما في الجينات، كما لو
أن السردية أصبحت جزءًا من البنية الجينية للهوية الثقافية. إنها استعارة حية للقول
المأثور "نحن ما نقرأ"، فهل نتحول قريبًا إلى "نحن ما نُشفِّر"؟
كما أن هذا التوجه
يفتح بابًا لتأملات أخلاقية وجمالية عميقة. هل يحق لكاتب مغربي، مثلًا، أن يقرر ترميز
سيرته الذاتية داخل حمضه النووي لتنتقل إلى أحفاده؟ وهل ستكون تلك السيرة نسخة مطابقة
للنص الأصلي، أم أنها ستُعاد تشكيلها حسب السياقات الوراثية أو المختبرية التي تُستخرج
منها؟ أي دور ستلعب الذاكرة الفردية حين تتحول إلى شيفرة كونية قابلة لإعادة التوليد؟
ولعل الأهم من ذلك
أن هذا الشكل الجديد من الحكاية يُعيد للشفاهات القديمة سؤال "الخلود". فحين
نخزن قصة داخل خلية، فإننا نحلم ضمناً بأن تعيش إلى ما لا نهاية، محمية من التلف، قادرة
على أن تُبعث في جسد آخر، أو تُقرأ من جديد في عالم غير العالم. وكأننا نعود إلى فجر
الأسطورة، حيث كانت الحكاية تسبق الزمان، وتتشكل في اللانهاية مثل دوامة نورانية.
في المغرب، حيث تتجاور
الحكايات الشفوية القديمة مع التجارب الرقمية الحديثة، أرى هذا التقاطع بين الحمض النووي
والأدب فرصة لاكتشاف سردية جديدة تنبع من تاريخنا، لكنها تنفتح على مستقبل لا محدود.
تخيّلوا مثلاً أن نخزن ملحمة «سيدي حمزة» أو «تغريبة بني هلال» داخل الخلايا الجذعية،
لا كمجرد حماية للتراث، بل كدعوة لإعادة توليده بألف صوت وصوت.
الحمض النووي ليس مجرد
مخزن للبيانات، بل هو قصيدة كونية. وإذا استطعنا أن نزرع الأدب داخله، فإننا نحرره
من الزمن، ونجعل من كل قارئ كائناً مشفرًا، يحمل معه مكتبة سرية، تنتظر لحظة التفعيل.
أجل، حين تسكن الحكاية
في اللولب المزدوج، فإن الكتابة تتحول إلى حياة، والحياة إلى قصة لا تنتهي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق