الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، مايو 15، 2025

حين تكتب الرواية شيفرتها وتخفي نفسها في المتاهة: ترجمة عبده حقي


لطالما سحرتني الفكرة القديمة المتجددة: أن النص الأدبي لا يُمنَح لقارئه بسهولة، بل يختبئ، ويتمنّع، ويشترط على من يرغب في ولوجه أن يكون أكثر من مجرد قارئ؛ أن يكون مُحلّل شيفرات، باحثاً عن المفتاح في قبو المعنى. في السنوات الأخيرة، لم تعد هذه الفكرة مجرّد مجاز بل تحوّلت إلى ممارسة أدبية رقمية تُعرف بـ"السرديات المشفّرة"؛ أعمال أدبية لا يمكن قراءتها إلا بعد فك رموزها. روايات تقبع داخل الأكواد، كتب لا تنكشف إلا بعد أن تُحلّ طلاسمها.

إنني أعيش في زمنٍ صار التشفير فيه ليس فقط أداة حماية بل لغة تعبير. لا أتحدث هنا عن التشفير الأمني فقط، بل عن التشفير كاستراتيجية فنية، بلاغية، بل حتى وجودية. فقد نشرت بعض المجموعات الفنية مثل "Cicada 3301" ألغازاً معقدة على الإنترنت، بعضها تضمّن إشارات أدبية ومراجع فلسفية وأكواد تشفيرية تتطلب معرفة بالبرمجة والرياضيات والتاريخ. تلك المحاولات، رغم أنها لا تقدم سرداً صريحاً، فإنها تخلق نوعاً من "النص اللامرئي"، سرداً يتكوّن في ذهن من يشارك في الكشف، لا من يقرأ على نحو تقليدي.

أفكّر في كيف أن جيمس جويس، في روايته "يوليسيس"، ابتكر شكلاً من التشفير الأسلوبي من دون استخدام الشيفرة الحرفية. جويس أخفى معانيه في تلاعب لغوي كثيف، في إحالته المستمرة إلى الميثولوجيا، في بنية الرواية نفسها. لكننا اليوم في عصر يمكن فيه للكاتب أن يخفي روايته فعلاً داخل ملف مُشفر لا يقرأ إلا بكود مفتاحي، أو أن يُنتج نصاً لا يتفاعل إلا مع قارئ يُجيد البرمجة ويفهم المفاتيح العامة والخاصة، كما هو الحال في تقنيات التشفير غير المتماثل (Asymmetric Encryption).

لقد لفت انتباهي مشروع أدبي رقمي اسمه "Neural Cryptographia" " التشفير العصبي "حيث يكتب الكاتب قصة قصيرة، لكن كل فقرة منها مشفرة باستخدام خوارزمية RSA، ويتم توزيع أجزاء المفاتيح بين قراء متعددين. فلا يمكن قراءة الرواية كاملة إلا إن تعاون القُرّاء وكشفوا المفاتيح لبعضهم البعض. بهذا يصبح السرد نفسه فعلاً اجتماعياً ومشتركاً، يضاهي معنى الرواية ذاتها في دلالتها على التعاون أو التواطؤ أو الغموض.

في هذا السياق، يُذكر الباحث الفرنسي **فرانسوا رابال** الذي ناقش في مقاله المعنون “La Littérature Cachée” إمكانية توظيف التشفير في الأدب كوسيلة لبناء طبقات جديدة من التأويل، وإبقاء النص متحركاً ومفتوحاً، بل حياً. يشير إلى أن التشفير لا يخفي النص فقط، بل يولد نصاً ثانياً، أو ثالثاً، بمجرد فك أول رمز. وكأن الرواية تُكتب مع كل عملية كشف.

على نحو شخصي، أجد في هذه التجربة شيئاً من تراث "ألف ليلة وليلة"، حين لا تكتمل الحكاية إلا حين تُروى بالكامل، وفي كل فصل تختبئ بداية فصل جديد، لا يُمنح إلا لمن تابع واستمر وأحب المغامرة. هناك سردية في الرغبة، في الترقب، في الشعور بأن المعنى متستر خلف جدار. وهذا الجدار اليوم هو الكود، اللوغاريتم، المفتاح العام، بصمة الخوارزمية.

لكن إلى أين يمكن أن تصل هذه التقنية؟ هل نحن بصدد ثورة تكنولوجية أم قفزة أدبية؟ أتذكّر هنا تجربة مشروع "Codex Seraphinianus" للرسام والكاتب الإيطالي لويجي سرافيني، الذي كتب كتاباً مصوراً بالكامل بلغة خيالية غير مفهومة. الكتاب لا يمكن فك شفرته، لا لعيب فيه، بل لأن لغته ليست لغة بشرية معروفة. لكن المتعة في قراءته تكمن في محاولات الفهم نفسها، في تفسير الصور، في بناء احتمالات خيالية للمعنى. وهو ما يحاكي نوعاً ما فكرة الرواية المشفرة رقمياً: إنها تطلب من قارئها أن يتحول إلى شريك.

غير أن هذا النوع من الأدب يطرح أيضاً سؤالاً عن النخبوية. من يستطيع اليوم أن يقرأ رواية مخفية داخل كود  Base64؟ أو كتاباً يحتاج لفك تشفيره برنامجاً خاصاً؟ هل سيتحول الأدب إلى مساحة مغلقة لا يدخلها إلا من يمتلك المفتاح الرقمي، تماماً كما أن بعض المعابد لا يدخلها إلا الكاهن؟ ثم هل ستبقى وظيفة السرد هي التشارك الإنساني أم ستنقلب إلى اختبار معرفي؟ هذه أسئلة لا يمكن تجنبها حين نتأمل الأدب كحقل للتفاعل لا للتعجيز.

ومع ذلك، أجد في هذا النمط الأدبي التجريبي وعداً جديداً: وعداً بأدب يتجاوز الحواس، يمتد ليشمل العقل الرياضي، ويستفز القارئ، ويمنحه سلطة لم تكن مألوفة. الأدب هنا يصبح تجربة من طبقتين: الأولى هي الكتابة، والثانية هي الكشف.

هكذا، في زمن كثُر فيه التزوير والنسخ، ربما لا نجد ملاذاً آمناً للكتابة إلا في التشفير. تماماً كما أخفى الرهبان مخطوطاتهم في رموز سرية، وكما خزن الشعراء محنتهم في استعارات مموّهة، يخفي الكاتب المعاصر نصه في سلسلة أرقام ومفاتيح، ويضع فوقه توقيعاً رقمياً قائلاً: "اقرأني... إن استطعت."

0 التعليقات: