في خضم التوترات المتصاعدة بين باريس والجزائر، برزت إلى الواجهة قضية غامضة أثارت ضجة إعلامية وسياسية واسعة، تحمل رمزية بالغة تتجاوز تفاصيلها الإجرائية إلى ما هو أعمق من ذلك: تصادم رؤيتين للعدالة. إنها قضية المعارض الجزائري المعروف اختصارًا بـ"MLDZ"، التي باتت تشكل اختبارًا حقيقيًا لاستقلالية القضاء الفرنسي من جهة، ولمصداقية الخطاب الرسمي الجزائري من جهة أخرى.
في فرنسا، يجري التعامل مع هذا الملف
باعتباره شأنًا قضائيًا صرفًا، مسنودًا بتحقيقات أمنية دقيقة دامت أكثر من عام،
واستندت إلى معطيات مادية لا تحتمل التأويل. أما في الجزائر، فإن السردية الرسمية
تدفع باتجاه نفي مطلق، تارة عبر التلميح إلى وجود مؤامرة سياسية تحاك ضد الدولة،
وتارة أخرى عبر الصمت المريب. هكذا تحوّلت القضية إلى ساحة اشتباك بين مؤسسات
قضائية تطلب العدالة، وآلة دعائية تطمس الحقائق خلف جُدر من الإنكار.
بدأت القصة في أبريل 2024، حين تم اختطاف
المعارض MLDZ، وهو لاجئ سياسي معروف، يعيش تحت الحماية
القانونية الفرنسية. لم تكن فرنسا لتتحرك دون دلائل، ولذلك جاء إعلان التوقيفات
الرسمية في أبريل 2025 بعد تتبع دقيق لتحركات المتهمين، شمل تحليل المواقع
الإلكترونية، واتصالات الهواتف، بل وتحديد وجودهم المكاني في محيط الاختطاف ليلة
تنفيذ العملية. من بين الموقوفين موظف في القنصلية الجزائرية بكريتاي، إضافة إلى
اثنين من مزدوجي الجنسية، بينما صدرت مذكرات توقيف دولية بحق اثنين آخرين غادرا
فرنسا قبل إعلان الاتهامات.
ورغم أن المشتبه فيهم ينتمون إلى مناصب
دبلوماسية وأمنية رفيعة، فإن السياق العام الذي تحركت فيه النيابة الفرنسية يؤكد
أن المسألة لا تتعلق بتصفية حسابات سياسية، بل بجريمة يعاقب عليها القانون
الجنائي، وربما تدخل ضمن الأفعال الإرهابية كما عرّفها المشرّع الفرنسي. هذه
الحقيقة القانونية هي ما يتهرّب الخطاب الرسمي الجزائري من مواجهتها، عبر ترحيل
الملف من ساحة العدالة إلى ميدان الصراعات الجيوسياسية.
فالتحقيقات أثبتت وجود المتورطين في أماكن
مرتبطة مباشرة بالجريمة، قبل وأثناء تنفيذها، مع وجود دلائل رقمية تؤكد تنسيقًا
مسبقًا بينهم. ولأن الضحية معارض سياسي، فإن القضية اتخذت أبعادًا أكثر حساسية،
دفعت بالنيابة الوطنية لمكافحة الإرهاب إلى التدخل، ما يُضفي مزيدًا من الجدية على
مسار الملف.
الرد الجزائري لم يكن في مستوى حجم القضية.
لا توضيحات رسمية موثقة، ولا طعن في المعطيات، بل فقط خطاب دفاعي يُصرّ على تصوير
ما جرى باعتباره محاولة فرنسية للتشويش على العلاقات الثنائية، متجاهلًا كل
الوقائع والأدلة. بل الأخطر أن هذا الإنكار ترافق مع تصعيد دعائي داخلي، يُسوّق
للرأي العام الجزائري رواية مظلومية سياسية، تهدف إلى شيطنة القضاء الفرنسي وتحويل
الضحية إلى جلاد.
لكن في فرنسا، يظل مبدأ الفصل بين السلطات
ضامنًا لمسار العدالة، التي لم تتردد في التعامل بصرامة مع قضايا كبرى مثل تمويلات
القذافي لحملة ساركوزي أو قضايا مارين لوبان. لذلك، لا يُمكن تحميل النظام القضائي
الفرنسي تهمة التسييس فقط لأن المتهمين ينتمون إلى نظام حليف أو خصم. في دولة
المؤسسات، لا حصانة لأحد أمام الأدلة.
ولعل ما يزيد الطين بلّة هو تمكّن اثنين من
المتورطين من مغادرة فرنسا قبل أن تُوجَّه إليهما التهم رسميًا، ما دفع السلطات
الفرنسية إلى اتخاذ تدابير احترازية مشددة في حق المتهم الثالث، وتقديم طلب رسمي
إلى الجزائر برفع الحصانة الدبلوماسية عن الفارين. وحتى اللحظة، لم تتعاون الجزائر
بالقدر المطلوب، بل تواصل سياسة المناورة الإعلامية على حساب التعاون القضائي.
القضية إذًا أبعد من معركة قانونية عابرة؛
إنها تجلٍّ لصراع نماذج: بين دولة تُراهن على سيادة القانون، وأخرى تُصرّ على
الهيمنة السياسية على كل المؤسسات، بما في ذلك القضاء. وبينهما يقف الرأي العام،
مطالبًا بالوضوح، ومتسائلًا عن مصير العدالة في عالم تتنازعه المصالح والدعايات.
ختامًا، سيبقى الملف مفتوحًا على جميع
الاحتمالات، لكنه يفرض على الجميع احترام القواعد القضائية الدولية، والتخلي عن
منطق الإنكار والتخوين. فالهروب من الحقيقة لا يُلغي وجودها، والتشويش الإعلامي لا
يُسقط الأدلة. وحدها العدالة، حين تُترك تعمل بحرية، تملك الكلمة الأخيرة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق