منذ اللحظة التي تسللت فيها جائحة كوفيد-19 إلى حدودنا، لم أعد أرى الأخبار كما كنت أراها. صرت أبحث عن شيء مختلف، أكثر عمقًا، أقل صخبًا من عناوين الصحف التقليدية، وأكثر صدقًا من المشاهد المتلفزة التي تمطرنا بمشاهد من المستشفيات وأصوات أجهزة التنفس الصناعي. أدركتُ حينها أن الصحافة التي تنقل عدد الإصابات والوفيات دون تحليل، تشبه من يصف زلزالًا بمقاييس العاطفة فقط، متجاهلًا المقاييس الزلزالية الدقيقة. فكانت الصحافة البيانية أو ما يُعرف بـ"صحافة البيانات" هي الضوء الذي أضاء لي عتمة الأرقام.
إن صحافة البيانات
ليست ترفًا معرفيًا، بل ضرورة ملحّة في زمن الأزمات. في مواجهة الجائحة، لم يعد الصحفي
مجرد ناقل لمعلومة، بل صار وسيطًا معرفيًا، يحوّل الأرقام الجامدة إلى قصص بشرية نابضة.
في هذا السياق، أتذكر ما قاله ألبيرتو كايرو في كتابه "The Truthful Art" حين اعتبر أن الصحفيين الذين لا يجيدون قراءة البيانات
سيكونون كمن يحاول وصف لوحة دون أن يرى الألوان.
في المغرب، كنت أتابع
التقارير اليومية الصادرة عن وزارة الصحة، لكن سرعان ما أحسست بفجوة هناك . الأرقام
كانت تتراكم دون أن تعني شيئًا حقيقيًا: 300 إصابة، 400 شفاء، 10 وفيات... ولكن ماذا
عن التوزيع الجغرافي؟ ما طبيعة الحالات الحرجة؟ ما مدى ارتباطها بمؤشرات اجتماعية كالهشاشة
أو الكثافة السكانية؟ لم تكن الإجابات حاضرة في النشرات الرسمية، لكن بعض المنصات الإعلامية
المستقلة، كموقع «Le
Desk» أو «Hespress Data», بدأت تسدّ هذا الفراغ، عبر رسوم بيانية تفاعلية وخريطة
رقمية توضح البؤر، مما جعلني أشعر، لأول مرة، بأنني أمام صحافة مسؤولة لا تكتفي بالبكاء
على عدد الضحايا.
أدركت أن سرّ التأثير
في صحافة البيانات لا يكمن في وفرة المعلومات فقط، بل في طريقة تنظيمها وتحليلها. وهنا
يأتي دور أدوات البرمجة الإحصائية مثل Python أو
R،
وقواعد البيانات المفتوحة التي تتيح للصحفي المغربي أن يربط بين أرقام الوباء والمعطيات
السكانية أو الطبية أو حتى البيئية. لم تعد المعلومة سلعةً جاهزة، بل معطى خام يحتاج
إلى تفكيك وتفسير وإعادة تشكيل.
وأنا أتأمل التجربة
العالمية، شدتني تغطيات صحيفة «نيويورك
تايمز»
التي استخدمت خرائط
متحركة وتصورات بيانية حية لفهم انتشار الفيروس عبر الولايات الأمريكية. كما أن موقع «Our World in Data» قدَّم نماذج مثالية للربط بين الوباء وسياقاته
الاقتصادية والتعليمية والبيئية. هذه النماذج جعلتني أتساءل: لماذا لا نمتلك في المغرب
تقليدًا راسخًا في صحافة البيانات رغم توفرنا على موارد بشرية واعدة؟ هل السبب هو غياب
ثقافة الانفتاح على المعطيات؟ أم ضعف البنية التكوينية للصحفيين في هذا المجال؟
ولعل ما يزيد الأمر
تعقيدًا، هو أن صحافة البيانات تتطلب نفسًا مزدوجًا: عقلًا إحصائيًا قادرًا على تحليل
البيانات، وحسًا سرديًا قادرًا على تحويل الأرقام إلى معاني. إنها مهنة تجمع بين الروائي
والعالم، بين الخيال والتجريب. وهنا تحديدًا تكمن الصعوبة. فالصحفي الذي لا يُتقن أدوات
تحليل البيانات سيبقى أسيرًا للسرديات الجاهزة، أما الذي يغرق في الأرقام دون روح،
فسيفشل في لمس القارئ.
في سياقنا المغربي،
أعتقد أن جائحة كوفيد-19 شكلت لحظة مفصلية دفعت بعض المؤسسات الإعلامية لمراجعة بنياتها.
فظهرت بوادر توجه نحو إنتاج محتوى بصري أكثر تفاعلية، واستخدام أدوات مثل Tableau أو Flourish لإنشاء رسوم بيانية ديناميكية. غير أن هذا
الحراك ظل محصورًا في هوامش التجربة، ولم يتحول بعد إلى تيار رئيسي. ما نحتاجه اليوم
هو إدماج صحافة البيانات في التكوين الأكاديمي للصحفيين، وإنشاء شراكات بين وسائل الإعلام
والجامعات ومراكز البحث العلمي، مثلما اقترح مركز
«European
Journalism Centre» في تقريره عن تعزيز صحافة البيانات في العالم العربي.
ربما آن الأوان لأعترف
أنني لم أكن أرى الوباء إلا وجهه الصحي، قبل أن تعلمني صحافة البيانات أن للفيروس وجوهًا
أخرى: وجه اجتماعي في أحياء الهامش، وجه اقتصادي في خسائر المقاولات الصغرى، وجه تعليمي
في تفاوت فرص التعلم عن بعد. كل تلك الأوجه لم تكن لتتكشف لولا عدسة البيانات التي
قرأت ما لم تقله الكلمات.
إن صحافة البيانات،
في المحصلة، ليست تقنية، بل رؤية. إنها ممارسة صحفية تُعيد للرقم إنسانيته، وللخبر
عمقه، وللجمهور حقه في الفهم لا في التلقي السلبي. في زمن الأوبئة، تتحدث البيانات...
فهل نحن مستعدون لنصغي؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق