الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، مايو 08، 2025

منصات المخزون الاستراتيجي الدرع الخفي في أزمنة الأزمات: ترجمة عبده حقي

 


في ظل ما يعيشه العالم من أزمات متكررة، من جائحات صحية إلى صراعات جيوسياسية وتقلبات مناخية حادة، برزت أهمية مفهوم "الاحتياطات الأولية" أو ما يُعرف بالمخزون الاستراتيجي كعنصر حيوي في منظومة الأمن القومي. لم يعد هذا المفهوم محصورًا في سياقات الحروب أو المجاعات كما في السابق، بل صار يشمل سيناريوهات الكوارث الطبيعية، والانهيارات الاقتصادية، وحتى اضطرابات سلاسل التوريد العالمية.

لقد أدركت دول كثيرة أن بناء "منصات" لإدارة هذه المخزونات يتجاوز فكرة تخزين السلع إلى إنشاء منظومات رقمية، لوجيستية، وتشريعية تنسّق وتحلل وتستجيب بسرعة لأي تهديد محتمل. إن المنصة هنا ليست مجرد مستودع تقليدي، بل نظام متكامل يعمل على تتبع العرض والطلب، ورصد المخاطر، وتوزيع الموارد في الوقت المناسب، بناء على معايير مرنة ودقيقة.

من أبرز النماذج العالمية في هذا السياق، التجربة الأمريكية في إدارة "الاحتياطي الاستراتيجي للبترول " (Strategic Petroleum Reserve - SPR)، الذي تم إنشاؤه بعد أزمة النفط عام 1973. هذا الاحتياطي الذي يضم أكثر من 700 مليون برميل من النفط الخام يُعد أكبر خزان طوارئ في العالم، وهو محفوظ في كهوف ملحية على سواحل خليج المكسيك. وتقوم وزارة الطاقة الأمريكية بإدارته كأداة تدخل في الأسواق في حالات الطوارئ، كما حصل في أعقاب إعصار كاترينا 2005 أو حرب أوكرانيا 2022.

لكن الولايات المتحدة لم تكتف بالمشتقات النفطية، إذ تمتلك أيضا مخزونات طوارئ من الأدوية، والمعدات الطبية، واللقاحات، وهي تدار من خلال هيئة متخصصة تُعرف باسم «Strategic National Stockpile».  خلال جائحة كوفيد-19، كشفت هذه المنصة عن أهمية وجود نظام رقمي ولوجستي مرن قادر على التوزيع السريع للموارد في ظل الضغط الكبير على سلاسل التوريد.

تُعتبر اليابان من الدول الرائدة في فلسفة الاستعداد للطوارئ. إنها بلد معروف بتكرار الهزات الأرضية والتسونامي جعل من التخطيط الاستباقي ثقافة مجتمعية ومؤسسية. تحتفظ الحكومة اليابانية بمخزونات من الأرز، والأدوية، والوقود، وتُدار هذه المنصات عبر نماذج تنبؤية دقيقة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، بالتوازي مع حملات توعية لمواطنيها لتخزين "الحد الأدنى من الطوارئ" في المنازل.

الميزة الفريدة في التجربة اليابانية أنها تربط بين ما هو محلي وما هو مركزي. فبينما تدير الحكومة الاتحادية احتياطيات استراتيجية، تُلزم البلديات بإعداد خطط خاصة، وتنظيم تدريبات دورية للسكان.

أما الاتحاد الأوروبي، فقد اكتشف، وإن متأخرًا، هشاشة اعتماده على مصادر خارجية للطاقة والمواد الأساسية. لقد دفعت الحرب في أوكرانيا الدول الأوروبية لإعادة النظر في سياسات تخزين الغاز، القمح، وحتى رقائق الكمبيوتر. كما أنشأت ألمانيا، مثلا، منصة رقمية لإدارة مخزون الغاز، وألزمت الشركات المزودة بتعبئة خزاناتها بنسبة لا تقل عن 90% قبل بداية الشتاء.

فرنسا من جهتها عززت قدراتها في مجال الأمن الغذائي بتوسيع شبكات الصوامع والمخازن، وربطها بنظام معلوماتي يسمح بتتبع حركة المواد من الحقول إلى الرفوف. أما بولندا ورومانيا، فركزتا على تحديث مخزونات الطوارئ من الأسمدة والمنتجات الزراعية تحسبًا لأي اضطراب في الأسواق الشرقية.

في شمال إفريقيا، يتجه المغرب إلى تبني هذا المنهج بطريقة متدرجة. فقد أطلق الملك محمد السادس، مؤخرًا، مشروع إنشاء "منصة للاحتياطي من المواد الأساسية" في جهة الرباط-سلا-القنيطرة، في خطوة تهدف إلى تعزيز السيادة الغذائية والطبية، واستباق سيناريوهات الأزمات.

هذه المنصة لا تقتصر على البناء التخزيني، بل تُدار عبر منظومة معلوماتية متقدمة، تُراعي المؤشرات المناخية، والتغيرات العالمية في الأسعار، وتكامل سلاسل النقل والتوزيع. والجدير بالذكر أن وزارة الداخلية المغربية أعدت في السنوات الأخيرة خرائط للمخزون الغذائي الوطني تشمل الحبوب، السكر، والزيوت، وهو ما مكّن البلاد من تجنب اضطرابات خطيرة خلال جائحة كورونا، مقارنة بجيرانها.

ورغم هذا التطور، تواجه منصات المخزون تحديات كبيرة، منها التكلفة العالية للتخزين والصيانة، صعوبة التنسيق بين الجهات، خطر الفساد أو سوء الإدارة، وتعقيد تكنولوجيا التتبع والمراقبة. كما أن الاستجابة السريعة تتطلب نماذج حوكمة متعددة المستويات، وتعاونًا بين القطاعين العام والخاص، فضلا عن الحاجة إلى تحديث القوانين المرتبطة بـ"اقتصاد الأزمات".

منصة الاحتياطي الناجحة ليست فقط مشروعًا تقنيًا، بل رؤية استراتيجية تُعامل "الطوارئ" كحالة دائمة محتملة، لا كاستثناء عابر. وهي أداة سيادية بالدرجة الأولى، تُعيد تعريف العلاقة بين الدولة ومواطنيها في زمن اللايقين.

في عالم سريع التغيّر، صارت "منصات المخزون الاستراتيجي" من ضرورات السيادة الوطنية، ومن ركائز الأمن البشري. لا يكفي أن تمتلك الدول مواردها الطبيعية، بل يجب أن تُحسن تدبيرها وتوزيعها في زمن الأزمات. من النفط إلى الأقنعة الطبية، ومن الحبوب إلى رقائق الحواسيب، تبقى القدرة على التخزين الذكي والاستجابة الفورية عنوانًا لعصر جديد من الإدارة الاستراتيجية... عصر حيث تُقاس قوة الدول، أحيانًا، لا بما تملكه، بل بما تحتفظ به من أجل الغد.

0 التعليقات: