الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، مايو 30، 2025

تلاشى حدود الشكل في الرواية الرقمية: عبده حقي


حين أعود بذاكرتي إلى قراءاتي الأولى، كانت الرواية بالنسبة لي كتابًا ذا غلاف ورقي، تُقلب صفحاته بأصابعٍ مرتعشة من الحماسة، وتُشمّ رائحته كأنها امتداد لذاكرة جماعية. لكنني اليوم، وأنا أتنقل بين تطبيقات القراءة، أو أتفاعل مع أعمال أدبية رقمية تنبض بالحركة والصوت واللون، أدرك أن الرواية لم تعد مجرد نص مكتوب، بل أصبحت كائنًا هجينًا، متعدّد الأبعاد، يتجاوز المطبوع ليلامس التجربة التفاعلية المباشرة. لقد دخلنا زمن "الرواية الرقمية" حيث تتلاشى الحدود بين الشكل والمضمون، بين الكاتب والمبرمج، بين القارئ والمتلقي النشط.

الرواية الرقمية ليست نوعًا أدبيًا جديدًا فحسب، بل هي تجلٍ لتحول ثقافي أعمق، ينبثق من رحم الثورة الرقمية. فهي لا تُقرأ فحسب، بل تُعاش. ويمكن القول إنها تُنصَّب على شاشة كما تُنحت المنحوتة على حجر. تأخذنا هذه الرواية أحيانًا إلى فضاءات تتجاوز الخيال، بفضل الوسائط المتعددة، مثل الصوت، والصورة، والفيديو، والنص التشعبي، كما نجد في بعض أعمال "سيمون بيغز" أو في تجربة "Twine"، وهي منصة لإبداع قصص رقمية تفاعلية حيث يشارك القارئ في صياغة السرد، لا من خلال الخيال وحده، بل بالقرار المباشر الذي يغيّر مجرى القصة.

لقد تحدثت كاثرين هايلز، في كتابها «Electronic Literature: New Horizons for the Literary»، «الأدب الإلكتروني: آفاق جديدة للأدب» عن ما تسميه "تجربة التوزيع الوسيط"، حيث يتحول النص إلى حدث. وهذا الحدث لا يقع داخل النص وحده، بل في التفاعل بين الإنسان والآلة، بين النص والبرمجية. من هذا المنظور، لم تعد الرواية فضاءً مغلقًا، بل أصبحت "شاشةً مفتوحة"، يُعاد تشكيلها باستمرار.

من موقعي ككاتب مغربي، أجدني أفكر كثيرًا في طبيعة هذا التحول، لا فقط من منظور تقني، بل من زاوية جمالية وثقافية أيضًا. كيف نعيد تعريف "الكاتب" في زمن تكتب فيه الخوارزميات النصوص؟ كيف نصوغ "اللغة الأدبية" في عصر تختلط فيه اللغة البرمجية بالبلاغة الأدبية؟ وكيف نحافظ على العمق الإنساني في سردٍ يعبر الكود بقدر ما يعبر القلب؟

لا أخفي أنني أُسائل أحيانًا هذا الانفجار التقني، وأتساءل: هل نحن أمام "ثورة" روائية حقيقية، أم مجرد قناع حديث لإعادة إنتاج أنماط سردية قديمة؟ لكنّني في الوقت نفسه أعي تمامًا أن الرواية الرقمية، كما يؤكد الناقد «سكوت ريتشارسون»، لا تهدف إلى قتل الورق، بل إلى توسيع مفهوم الأدب ذاته. إنها وسيلة لإشراك القارئ في "لعبة السرد"، حيث لا توجد نهاية واحدة، ولا بطل مطلق، بل احتمالات تتشعب كأغصان شجرة متمردة.

تجربتي الشخصية مع الكتابة الرقمية جعلتني أُدرك أن ما نتعامل معه ليس مجرد "وسيط" جديد، بل أفق مختلف في التلقي والكتابة. في إحدى محاولاتي، كتبت نصًا يعتمد على صور متتابعة من جبال الأطلس، مزجتُ فيه الشعر بالصوت، وأضفتُ خلفيات موسيقية أمازيغية تُستدعى حسب سرعة القارئ في التفاعل مع النص. لم أكن المؤلف الوحيد، بل كانت الخوارزمية شريكًا خفيًا في الإبداع. تلك التجربة فتحت لي عيونًا جديدة على السؤال: من يحكي القصة؟ وهل الرواية، كما عرفناها، قادرة بعد اليوم أن تبقى على حالها؟

إننا نعيش لحظة انتقالية تتقاطع فيها الأسئلة التقنية بالأسئلة الفلسفية. فالرواية الرقمية ليست مجرد تحديث في الشكل، بل في المفهوم: إنها تلغي التراتب بين الكاتب والقارئ، بين النص والسياق، بين الداخل والخارج. وقد أشار المفكر الفرنسي «جان بودريار»، في سياق آخر، إلى أن “الواقع أصبح مفرطًا في الواقعية”، وربما هذا ما تفعله الرواية الرقمية: إنها تحاكي الحياة إلى حد الذوبان فيها، ولكنها في ذات الوقت، تُعيد تعريف ما هو "واقعي" عبر وسائط افتراضية.

ربما المستقبل سيحمل لنا روايات لا تُقرأ بل تُرتدى عبر تقنيات الواقع الافتراضي، أو تُحكى من خلال الذكاء الاصطناعي، كما بدأ يحدث مع بعض التجارب التي تولّد قصصًا بناءً على البيانات الشخصية للقارئ. عندها، قد نتحدث لا عن "نهاية الرواية"، بل عن بدايات لا متناهية لأشكال سردية تنمو، تتغير، وتُبرمج على الإحساس.

في النهاية، لستُ متأكدًا إن كنت سأظل أكتب رواياتي على شاشة الحاسوب، أو أعود أحيانًا إلى الورق كما يعود المتصوف إلى خلوته. لكنني على يقين من شيء واحد: أن الرواية، ما دامت تعبّر عن الإنسان، ستظل تجد لها شكلاً – حتى لو كان ذلك الشكل على هيئة ذبذبة، أو كود، أو حلم عابر على شاشة هاتف.

0 التعليقات: