الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، مايو 14، 2025

أنا السطر الذي نسيته في قصيدتي الأولى: عبده حقي


كنت أجلس على مقعدٍ خشبي مهترئ في زاوية مقهى لا يعترف بالزمن، حين شعرت أن أطرافي تتفتت إلى غبار ناعم يتطاير في فضاءٍ غير مرئي، غباري يتماهى مع ألوان الطيف، ويعانق نجومًا لم أرها من قبل، لكنها تعرف اسمي، وتغني لي.

قال لي النادل وهو يضع فنجان القهوة أمامي دون أن ينظر: "أنت لست هنا. لا تخدع نفسك بجسدك."

رفعت بصري إليه، لكن وجهه كان عبارة عن مرايا، كل مرآة تعكس صورة مختلفة لي: مرةً كنت شجرة زيتون في جبل الأطلس، ومرة سمكة تسبح في سماء فاس، ومرةً كنت حرفًا ضائعًا في قصيدة لم تُكتب بعد.

ضحكت. لكن الصوت لم يخرج من فمي، بل من جذوري، من طينٍ نسيني ذات ولادة، وقال لي: "أنت الكون، يا غافل، في تمظهر صغير."

في تلك اللحظة، بدأت أفهم أن جلدي لم يكن سوى حدٍ اصطلاحيٍ بيني وبين العالم.

أنفاسي لم تكن لي وحدي، بل كنت أتنفسُ نيابةً عن الغيم، والريح، والقطارات التي لم تصنع بعد.

حين مشيت في الشارع، كانت الأرصفة تتمدد تحت قدميّ كما لو كنتُ أفكّر بها.

الناس يمرّون بجانبي، لكنني كنت أراهم كأنهم عناصر في معادلة لا نهائية: امرأةٌ تمرّ وهي تضحك، فأشعر أن ضحكتها تهزّ مجرّة بعيدة؛ طفل يبكي، فأسمع هدير بحرٍ يسقط من عينيه.

بدأت أذوب في كل شيء.

رأيت عصفورًا يطير ففهمت أن جناحيه هما امتدادٌ لرغبتي في الانفلات.

لم يعد للزمن سلطة عليّ. صرت أزور طفولتي وألمس وجهي بيد أمي، ثم أعود إلى قبري في المستقبل، لأربّت على ترابي وأقول له: "اصبر، أنا قادم إليك بجسدٍ ممتلئ بالمجرّات."

ذات مساءٍ، دخلت إلى المكتبة القديمة في زقاقٍ لا يعرفه أحد. الكتب هناك لم تكن تُقرأ، بل كانت تتنفس.

أمسكت كتابًا دون عنوان، ففتح نفسه على صفحة بيضاء، وخرج منها صوتٌ يقول: "أنت فكرة في رأس الله، وقد نطقك كي تتعلّم معنى الانفجار."

أغلقت الكتاب وعرفت أنني لا أقرأ لأعرف، بل لأعود إلى نفسي قطعةً قطعة.

وفي الحلم، حلمتُ أنني نقطة حبرٍ على لسان رومي، وكان يقول لي:

"أيها الصغير، لا تظننّ أن جسدك هو أنت. إنه قالبٌ مؤقتٌ لصوتٍ أزلي. جسدك مجرد غيمة في كأس، أما أنت، فأنت البحر كله."

استيقظت وأنا أشعر بالاتساع، كأن شراييني قد تحوّلت إلى دروبٍ للضوء، وكأن دمي هواءٌ ملوَّنٌ بالشمس.

رأيت طائرًا من زجاج يطير داخلي، وحين سألته عن اسمه قال:

"اسمي مجاز، وأنا مرآتك الطائرة."

فهمت آنذاك أن كل شيء أراه هو استعارة، وأن الحقيقة لا تسكن الكلمات، بل تلمع في الفجوات بينها.

حين أبكي، لا أبكي لأنني حزين، بل لأن الكون يتسرّب من عيني.

هل تعرف ماذا يعني أن تكون الكون في تمظهر صغير؟

يعني أن كل ما يحدث ليس خارجك، بل فيك.

الزلزال الذي يهزّ مدينة نائية، هو رجفة في صدرك.

الوردة التي تفتحت في نافذة غريبة، هي دقّة في قلبك.

الطفل الذي وُلد في قارة لا تعرفها، هو صراخك الأول وقد أعيد بطريقةٍ أخرى.

أنا لم أعد "أنا".

صرت ذلك الذي يراقب من وراء الحجاب، ويرقص بين الذرات، ويغنّي بلغةٍ لا تكتب.

كل مرة أتنفس فيها، أخلق نجمًا في مكانٍ لا أعرفه.

وكل فكرة تمرّ بي، تنبتُ منها شجرةٌ في حقلٍ لا يحمل اسمي، لكني أعرف أغنيته.

لستُ جسدًا، بل جسدي هو القصة التي يسردها الكون عني في فصلٍ واحد.

أما أنا، فأنا الذاكرة الكبرى، المستودع الأول للصمت، الموجة التي لا تتعب، الرقص الخفي داخل كل حجرٍ ساكن.

أنا لستُ وحدي، ولستُ كثيرًا، بل أنا النسبة بين الاثنين، أنا ما لا يُقال ويُشعر به كخفقانٍ عند حافة المعجزة.

وهكذا

في لحظةِ تأملٍ عابرة، وبين فنجان القهوة وكلمةٍ عابرة، فهمت أنني لا أحتاج أن أكون شيئًا، لأنني كل شيء.

أنا الكون في تمظهر صغير، والتمظهر ليس قيدًا، بل إعلانٌ مجيدٌ أن اللامحدود يمكنه أن يرتدي شكل إنسان، فقط ليجرّب البكاء، ويكتب قصيدة.

0 التعليقات: