الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، مايو 14، 2025

الجزائر تحت مجهر مجلس الدفاع الفرنسي: ترجمة عبده حقي


لم يكن أكثر المتشائمين في العلاقات الجزائرية الفرنسية يتوقع أن تنقلب موازين الشراكة التاريخية إلى درجة تُكرّس فيها الجمهورية الفرنسية مجلس دفاع مخصصًا بالكامل للجزائر. حدث استثنائي وغير مسبوق، حمل معه مؤشرات مقلقة عن تحوّل بلدٍ يُفترض أن يكون "صديقًا استراتيجيًا" إلى مصدر تهديد مباشر للأمن القومي الفرنسي، وفقًا لما ورد في تقارير أمنية رُفعت إلى الرئيس إيمانويل ماكرون.

لقد كشفت صحيفة  Le Journal du Dimanche، في تقرير استقصائي وقّعه الصحفي الفرنسي الجزائري محمد سفاوي، عن اجتماع سري عُقد على أعلى مستوى في قصر الإليزيه، جمع الرئيس الفرنسي بعدد من كبار المسؤولين الأمنيين والسياسيين لمناقشة ما وصفته باريس بـ"التهديدات الجزائرية"، في الداخل الفرنسي وفي نطاق المصالح الفرنسية عبر القارة الإفريقية.

ويستند هذا التحرك إلى سلسلة تقارير أعدّتها مصالح الاستخبارات الفرنسية، توصّلت من خلالها إلى توثيق عمليات تدخل "عدوانية" يُعتقد أن أجهزة المخابرات الجزائرية نفذتها على التراب الفرنسي، شملت حسب التقرير: مضايقة معارضين جزائريين، تهديد نشطاء من الجالية، محاولات تجنيد موظفين فرنسيين من أصول جزائرية للتجسس، إلى جانب ممارسات وصفت بـ"الاستفزازية" قام بها دبلوماسيون جزائريون يُشتبه في كونهم عناصر أمنية بغطاء دبلوماسي.

وتتحدث الوثائق الأمنية، التي طُلبت خصيصًا من ماكرون، عن سلسلة من الانتهاكات بدأت تكثفت منذ عام 2021، تتزامن مع مرحلة "تشديد القبضة" داخل الجزائر عقب إخماد الحراك الشعبي، ما دفع المعارضة إلى اتخاذ منفى باريس منصة جديدة لنشاطها السياسي. ولأن فرنسا تحتضن أكبر جالية جزائرية في الخارج، فإنها بطبيعة الحال تحوّلت إلى ساحة مواجهة رمزية بين السلطة الجزائرية وخصومها.

لكن ما يرفع درجة الخطورة، بحسب التقرير، هو أن التدخل الجزائري تجاوز حدود "اللوبيينغ" التقليدي المعتاد في العلاقات الثنائية، إلى نمط سلوكي عنيف؛ يراوح بين الترهيب والتجسس والاختراق المؤسساتي، في خرق واضح لقواعد السيادة الفرنسية.

إزاء هذا التصعيد، لم يجد الإليزيه مناصًا من تفعيل مجلس الدفاع والأمن القومي، وهو هيئة سيادية تم تقنينها بموجب المادة 15 من الدستور الفرنسي سنة 1958، وتُعقد اجتماعاتها غالبًا في ظروف استثنائية تتعلق بأزمات كبرى كالهجمات الإرهابية أو الأوبئة أو التهديدات الخارجية.

ورغم أن اجتماعات هذا المجلس تجرى عادة في كتمان شديد – على عكس ما هو سائد في الجزائر حيث تتحول اجتماعات مجلس الأمن الأعلى إلى عروض إعلامية – فإن التسريبات الصحفية الأخيرة أزاحت الستار عن ما وصفه محللون بـ"تدهور خطير" في العلاقات بين باريس والجزائر.

ولم يقف الأمر عند مجرد تحليل سياسي، بل تجاوز إلى خطوات تنفيذية؛ فالسفير الفرنسي في الجزائر رُفع إليه أمر الاستدعاء والتشاور، كما تم تداول مذكرات ديبلوماسية من السفراء السابقين تحذّر من "تغوّل الأجهزة الجزائرية"، وتحمل بين سطورها انتقادات للتماهي الفرنسي السابق مع سلوك السلطات الجزائرية.

وتشير المقالة أيضًا إلى أن دوائر القرار الفرنسي، بقيادة ماكرون، تسعى لإعادة تقييم شاملة للعلاقات مع الجزائر، بما يتلاءم مع المستجدات الأمنية. إذ لم تعد فرنسا، بحسب ما يتضح من مسار الأحداث، تقبل بدور "المسرح الصامت" الذي تُمارس على أرضه عمليات مشبوهة ضد نشطاء جزائريين ومواطنين فرنسيين من أصل جزائري، من دون رادع أو رد رسمي.

الرد الجزائري، أو بالأحرى صمته، لم يقلّ إثارة للريبة. إذ لم يصدر أي تكذيب رسمي للاتهامات الخطيرة، بل على العكس، سُجّلت مؤشرات تدل على توجه نحو مزيد من التصعيد، من خلال تهديدات بطرد دبلوماسيين فرنسيين، ومحاولات الضغط الإعلامي المضاد. وهو ما يدل على حالة من التوتر الشديد في قنوات الاتصال بين العاصمتين.

في السياق ذاته، يرى مراقبون أن صعود تيارات جزائرية أكثر "اندفاعًا" في التعاطي مع فرنسا، قد ألغى الحدود بين العمل الدبلوماسي الشرعي والأنشطة السرية غير القانونية. وهو ما دفع باريس، بحسب ما ورد في المقال، إلى التعامل مع الوضع بوصفه "أزمة أمن قومي" لا تحتمل التهاون.

وفي ظل هذا الوضع المتأزم، تبقى الأسئلة الكبرى معلّقة: هل نحن أمام تحول بنيوي في العلاقة بين البلدين؟ وهل تسير الجزائر نحو عزلة أوروبية متصاعدة بسبب هذه التجاوزات؟ ثم، ما مستقبل الجالية الجزائرية في فرنسا، في ظل هذه الشبهات الثقيلة؟

الزمن وحده كفيل بالإجابة، غير أن ما هو مؤكد في اللحظة الراهنة هو أن الصمت الفرنسي قد كُسر، وأن باريس بدأت تعيد النظر، بعيون أمنية، في بلد لطالما نُظر إليه كشريك استراتيجي "تاريخي"، لكنه اليوم بات عنوانًا لأحد أخطر الاجتماعات الأمنية في قصر الإليزيه.

0 التعليقات: