الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، مايو 03، 2025

قراءة في كتاب "طغيان الخوارزميات" للباحث الأميركي فرانك باسكال: عبده حقي


حين قرأتُ مراجعة لكتاب "طغيان الخوارزميات" للباحث الأميركي فرانك باسكال، شعرت كما لو أنني ألقيت نظرة من ثقب الباب على المستقبل… ذاك المستقبل الذي لم يعد بعيدًا، بل صار يحكم يومياتي من محرك البحث إلى طلب سيارة الأجرة، ومن متابعة الأخبار إلى التقديم على وظيفة. لم أكن أقرأ كتابًا مجردًا في النظرية، بل كنت أشعر كأن الكاتب يضع إصبعه على الجرح الرقمي الذي بدأ ينزف دون أن يشعر به كثيرون.

لقد أراد باسكال في هذا العمل أن يفكك الوهم الذي يحيط بكلمة "خوارزمية"، تلك الكلمة التي تُلفظ عادةً بطمأنينة علمية، لكنها في الواقع تخفي وراءها شبكة معقدة من الانحيازات، الغموض، والسلطة غير المرئية. إنه كتاب يحاكم السلطة الرقمية التي تحكمنا من خلف الكواليس، والتي رغم ادعائها الحياد، لا تخلو من تحيزات مطوريها ومصالح المؤسسات التي توظفها.

ما أثارني منذ الصفحات الأولى هو كيف يبيّن باسكال أن الخوارزميات لم تعد مجرد أدوات تُستخدم لتحسين الكفاءة، بل أصبحت تحكم أحكامًا حاسمة: من يُقبل للعمل؟ من يستحق القرض؟ من يُلاحق أمنيًا؟ كل ذلك يتم دون أن يكون لنا الحق في الاطلاع على "منطق" القرار. هل يمكن تخيل عالم يُحاكم فيه الإنسان دون أن يعرف التهمة ولا القاضي؟ هذا هو واقعنا الرقمي الذي كشفه باسكال.

أكثر ما جذبني هو الفصل الذي يناقش فكرة "الصندوق الأسود"، وهو تعبير يستخدمه باسكال لوصف تلك الأنظمة المغلقة التي لا تسمح لأي مستخدم أو مواطن بفهم آلية اتخاذ القرار. يذكرني ذلك بما قاله جورج أورويل في «1984»، عن دولة تتحكم في مصير الفرد دون شفافية، لكن الفرق أن خيال أورويل كان سياسيًا واضحًا، أما خيال خوارزميات اليوم فهو متخفّ في واجهة برمجية أنيقة ومحببة.

ككاتب مغربي مهتم بعصر التحول الرقمي، شعرتُ أن الرسالة التي يوجهها الكتاب لا تخص الغرب وحده، بل إننا نحن في الدول العربية قد نكون أكثر عرضة لهذا الطغيان، لا لشيء إلا لأننا غالبًا ما نستهلك التكنولوجيا دون مساءلة، ونفتقر إلى البنية القانونية والمؤسساتية التي تحمي المواطن الرقمي من تغوّل هذه الأنظمة. في المغرب، على سبيل المثال، تستخدم بعض المؤسسات أنظمة ذكاء اصطناعي في التوظيف والتقييم، لكن لا أحد يطرح السؤال: من كتب الخوارزمية؟ ومن يراقبها؟ ومن يملك حق الاعتراض على قراراتها؟

يُحيلنا باسكال أيضًا إلى قضايا شهيرة، مثل الخوارزميات التي استخدمتها الشرطة في بعض المدن الأميركية لتوقّع الجرائم، والتي أظهرت لاحقًا انحيازًا واضحًا ضد الأقليات. الخطر ليس فقط في التحيز، بل في التقديس الذي نُضفيه على "الحسابات الرياضية" وكأنها الحقيقة المطلقة. باسكال يذكرنا بأن وراء كل خوارزمية عقل بشري، بخلفياته وميوله، وأن التكنولوجيا ليست أبدًا محايدة.

أُعجبت أيضًا بطريقة الكاتب في الربط بين القانون والتكنولوجيا. فهو نفسه أستاذ في القانون، ويقدّم اقتراحات عملية لبناء منظومة تشريعية تُلزم الشركات بتوفير الشفافية، وتمنح الأفراد الحق في مراجعة القرارات الآلية التي تؤثر على حياتهم. أليست هذه هي الديمقراطية الرقمية التي نطمح إليها؟ حيث لا تُسلَب منا إرادتنا باسم "الأتمتة"؟

ربما أكثر ما ترك في نفسي أثرًا بعد قراءة الكتاب هو إدراكي لحجم الخطر عندما تفقد البشرية حقها في الفهم. ليس الخطر في تطور التكنولوجيا بحد ذاته، بل في غياب المراقبة والمحاسبة. نعيش اليوم ما يسميه البعض بـ"الرأسمالية الخوارزمية"، حيث تتحول كل حركاتنا وأفكارنا إلى بيانات تُطحن في معامل الذكاء الاصطناعي لتنتج قرارات تخصنا، دون أن نعرف من يُصدرها أو لأي غاية.

في ختام هذه الرحلة الفكرية التي قادتني إليها صفحات باسكال، لم أخرج بمعرفة أكاديمية فقط، بل بشعور مُلحّ بالمسؤولية. كاتبًا كنت أو قارئًا، أكاديميًا أو مواطنًا عاديًا، علينا أن نستعيد قدرتنا على مساءلة التكنولوجيا، على كسر صناديقها السوداء، وعلى التأكيد أن الإنسان، بكل هشاشته وتعدديته، لا يمكن اختزاله في معادلة رياضية.

«طغيان الخوارزميات» ليس مجرد تحذير، بل هو دعوة للمقاومة الهادئة، تلك التي تبدأ من الوعي وتنتهي بتشريع عادل. وربما آن الأوان أن نبدأ من هنا، من عالمنا العربي، في رسم ملامح حوار تكنولوجي لا يقصي الإنسان، بل يضعه في مركز القرار.

0 التعليقات: