الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، مايو 03، 2025

في حضرة 3 ماي الصحافة العربية بين الرصاصة والروبوت: عبده حقي


في الثالث من ماي، وهو يستعد لكتابة هذا المقال، شعر كما لو أنه يرتدي قميصاً من الحبر الثقيل، وتحت جلده نبضٌ من ورقٍ ممزق. اليوم العالمي للصحافة ليس بالنسبة له مناسبة احتفالية بقدر ما هو وقفة تأمل قلقة وحزينة. هل ما زالت الصحافة مهنة المتاعب؟ أم غدت مهنة الإهمال، مهنة الخطر المزدوج: من جهة الأنظمة القمعية ، ومن جهة أخرى التقدم التكنولوجي الذي يهدد باجتياحها بالكامل؟

يقول صديقي الصحفي أعود اليوم بذاكرتي إلى أول مرة دخلت فيها غرفة تحرير صحيفة ورقية، كنت أحمل قلماً ودفتر ملاحظات، وشغفاً أكبر من جسدي النحيل. قيل لنا يومها إن الصحافة هي السلطة الرابعة، وإننا ضمير المجتمع ولسان المقهورين. لكن شيئاً فشيئاً،

بدأت هذه العبارات تتآكل مثل حروف العناوين القديمة على أرشيف صحف مهجورة. اليوم، ونحن نكتب عن الصحافة، نكاد نكتب عن جثة تُشيَّع في صمت، أو عن ظل يفر من المرآة.

في كثير من دول العالم، ما زال العمل الصحفي محفوفاً بالمخاطر. ليس فقط بسبب الاعتداءات أو المضايقات، بل بسبب غياب قانون شغل يحمي الصحفي كعامل، كإنسان قبل أن يكون ناقلاً للخبر. كيف لنا أن ننتج صحافة حرة ومستقلة إذا كانت عقود العمل في غالبية المؤسسات الإعلامية تُكتب بماء التوجس؟ كيف ننتظر من الصحفي أن يواجه الاستبداد وهو لا يستطيع حتى أن يطالب براتبه دون أن يخشى الطرد؟ إن الصحافة تعيش على هامش حقوق الشغل، وتحت رحمة الناشرين والممولين، وهذا في حد ذاته عنف مؤسسي مغلف بالاحتراف.

وفي عالمنا العربي، يبدو أن المعركة مضاعفة. فإضافة إلى هشاشة البنية القانونية والاقتصادية، هناك جدار صلد اسمه الرقابة، وجدار آخر أكثر سمكاً اسمه «الخوف من الحرية». لا أقول ذلك مبالغة، بل بحس من عاش التجربة. الصحفي العربي يُحاسب على السؤال قبل أن يطرح الجواب. يُستدعى بسبب مقال، أو بسبب تغريدة، أو حتى بسبب صمته حين يتطلب منه النظام تملقاً. تُغلق المؤسسات، تُحجب المواقع، تُصادر الصحف، وتُفبرك الاتهامات. وفي نهاية المطاف، يكتب التقرير الأمني بلغة صحفية، بينما يُمنع الصحفي من الكتابة بلغة الحقيقة.

وها هي غزة، جرحنا العربي المفتوح، تذكرنا كل يوم بأن الصحافة في أوطاننا ليست فقط مهنة المتاعب، بل مهنة الموت أيضاً. كم صحفياً سقط منذ بداية الحرب الأخيرة؟ كم عدسة تهشمت؟ كم دفتر ملاحظات احترق في غارة؟ الصحفيون هناك لا يحملون سوى الكاميرا والحقيقة، ومع ذلك يُستهدفون وكأنهم وحدات عسكرية. تُقصف منازلهم، يُقتَل أطفالهم، ومع ذلك يصرون على توثيق الكارثة، وكأنهم يكتبون التاريخ بالدم، لا بالحبر.

ولعل أكثر ما يؤرقني، هو أن هذا الزمن الرقمي الذي حلمنا فيه بحرية التعبير، بات يختزل الصحفي في منشور فيسبوك، أو في سلسلة تغريدات. لم تعد هناك هيبة للمقال الطويل، ولا قيمة للتحقيق الاستقصائي، ولا صبر لقراءة افتتاحية ناضجة. منصات التواصل أفرغت الخبر من مضمونه، وأعادت إنتاجه بسرعة تفتك بالمعنى. ولم يعد المواطن يفرق بين من يُخبره ومن يُضلله، بين من يتحقق من المعلومة ومن يُعيد نشرها سعياً لنقرة إعجاب.

والآن، الذكاء الاصطناعي يزاحمنا. يكتب، ويحرر، ويركب الفيديوهات، ويترجم ويحلل. في ظرف ثوانٍ، يمكنه أن يُنتج ما كنتُ أحتاج فيه أياماً من التحقق والبحث والمقابلات. ولست من الذين يرفضون التكنولوجيا، بل أراها أداة مساعدة عظيمة، لكنني أخشى أن تتحول إلى بديل خطير، يختزل الصحفي في خوارزمية، ويجعل من المؤسسات الصحفية مصانع محتوى آلي بلا روح. إن قيمة الصحافة ليست فقط في نقل الخبر، بل في رؤية الصحفي، في حساسيته، في شكه وفي جرأته على إعادة طرح السؤال.

اليوم، في يومها العالمي، لا أريد أن أكون مجرد ناقم أو حالم. أريد أن أستعيد المعنى. أن أقول إن الصحافة ما زالت ضرورية، حتى لو خفت صوتها. إنها مثل الشمعة في نفق طويل، مثل النبض في جسد يحتضر. نحتاج فقط أن نعيد الثقة في الصحفي، أن نحميه قانونياً، وأن نمنحه أدوات العصر دون أن نسلبه جوهر مهمته. نحتاج أن نتذكر أن الصحافة ليست مرآة للسلطة، بل كشاف للواقع، ولو كان مظلماً.

في النهاية، لست أدري إن كنت أتحدث بضمير صحفي ما زال يؤمن برسالته، أم بلسان مهني سابق يودع مهنته. لكن ما أدركه جيداً هو أن الصحافة، رغم كل شيء، ما زالت تستحق أن تُحتفل بها لا من باب الطقوس، بل من باب النضال. لأنها، ببساطة، حارسة الحقيقة، ولو أن الحقيقة أضحت نفسها مهددة بالاغتيال.

0 التعليقات: