الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، يونيو 18، 2025

حين تكمّم الخوارزميات أفواهنا: رقابة المنصّات وحدود حرية التعبير: عبده حقي


في كل مرة أفتح فيها حسابي على إحدى المنصّات الاجتماعية، ينتابني شعور مزدوج بين الحضور والغياب؛ كأنني أتكلم في ميدان عام وأهمس في آنٍ واحد. فالفضاء الرقمي الذي وعدنا بأنه سيحرّر الكلمة، بات في كثير من الأحيان قفصًا شفافًا، نُراقب فيه دون أن نعي بذلك، وتُقيّد فيه كلماتنا تحت ذرائع شتى، من "مخالفة المعايير" إلى "حماية المجتمع".

لقد ترعرعت في ثقافة جعلت من "الحرية" قيمة مقدسة، لكنني أكتشف يوماً بعد يوم أن حرية التعبير في زمن المنصات ليست مفهوماً قانونياً فقط، بل أصبحت مرتبطة بخوارزميات عمياء، وسُلطات رقمية غير منتخبة، تفرض رقابة غير معلنة على ما نقول، أو حتى ما نفكر في قوله.

ليس الحديث هنا عن الرقابة التقليدية التي تمارسها الدول، رغم أنها لا تزال قائمة. بل عن نوع جديد من الرقابة، ناعم ومراوغ، تمارسه الشركات العملاقة التي تتحكم في تدفق المعلومات، والتي أصبحت تلعب دور القاضي والحَكم والمنفذ في آن واحد. فشركة مثل "ميتا"، التي تدير فيسبوك وإنستغرام، تستطيع أن تحذف منشورًا أو تُعلّق حسابًا بناءً على "خوارزمية" قد لا يفهمها حتى مبرمجوها. ومنصة مثل "تويتر" التي صارت تُدعى X كانت ميدانًا حرًا ثم تحوّلت إلى ساحة معقدة تعجّ بالسياسات المتغيرة والقرارات المزاجية.

أتذكّر كيف أوقف لي أحد الأصدقاء منشورًا ينتقد سياسة الاحتلال في فلسطين، بحجة "التحريض على العنف"، في حين تُترك منشورات تحريضية عنصرية قائمة من دون مساس. هل باتت القيم تُفلتر بحسب الجغرافيا والسياسة؟ وهل خضعت حرية التعبير لمنطق السوق، حيث ما يُرضي المعلنين يُنشر، وما يُزعجهم يُقصى؟

يُذَكّرني هذا بما كتبته شوشانا زوبوف في «عصر رأسمالية المراقبة»، حيث تصف كيف تحوّل الإنسان إلى "مواد خام" في يد شركات تكنولوجية، لا تستثمر فقط في بياناتنا، بل في تشكيل وعينا واتجاهاتنا. الرقابة إذن ليست فقط حذف منشور، بل توجيه خفي لطبيعة المحتوى الذي نراه، ومن ثم لما نفكر فيه ونؤمن به.

في المغرب، مثل سائر بلدان الجنوب، أصبح المواطن يعيش انفصاماً بين رغبة عارمة في التعبير، وخوف دائم من تبعات النشر. ليس بسبب القوانين المحلية فحسب، بل لأن المنصة ذاتها قد تُعلّق منشوراً بدعوى "نشر خطاب الكراهية" بينما لا تجد ضيراً في الإبقاء على محتوى استعماري أو تمييزي. إنها ازدواجية المعايير تتجلّى في أبهى صورها.

 

الرقابة الرقمية اليوم لم تعد تتعلّق فقط بماذا نقول، بل أيضًا بمن يُسمح له بالوصول إلى جمهور، ومن يُقصى بهدوء. الخوارزميات تختار من ترفعه ومن تخفضه، من يُسلّط عليه الضوء ومن يُدفع إلى الظل. وبهذا المعنى، فهي تصوغ الرأي العام كما تصوغ شركة أزياء موضة الموسم.

المفارقة أن هذه الرقابة لا تأتي مصحوبة بصوت صفّارة أو تدخل أمني، بل تُمارَس باسم "المجتمع"، "المعايير"، "السلامة الرقمية"، وهي مصطلحات تبدو إيجابية، لكنّها تفرغ حرية التعبير من مضمونها، وتحولها إلى ترف مشروط.

في هذا السياق، يُطرح السؤال: ما الذي يمكن فعله؟ كيف نحمي حرية التعبير من الرقابة الرقمية دون الوقوع في فوضى خطاب الكراهية؟ الجواب ليس بسيطاً، لكنني أعتقد أن جزءاً منه يكمن في تعزيز الشفافية والمساءلة، والضغط من أجل أن تُفصح المنصات عن خوارزمياتها وسياساتها، لا أن تظل أبراجاً غامضة.

ثم إن الوعي النقدي الفردي بات ضرورة. على المستخدم ألا يكتفي باستهلاك المحتوى، بل عليه أن يطرح الأسئلة: لماذا أُظهر لي هذا المنشور؟ ولماذا لم أَرَ غيره؟ هل فعلاً تم حذف منشور زميلي لأنه مخالف، أم لأنه لا ينسجم مع ميول المنصة السياسية أو التجارية؟

الرقابة، كما يقول جورج أورويل، تبدأ حين "تُمنع اللغة من تسمية الأشياء كما هي". والرقابة الرقمية الجديدة لا تمنعك من أن تتحدث، لكنها تمنعك من أن تُسمَع. وذاك هو أخطر أشكال القمع في عصر يدّعي الانفتاح.

0 التعليقات: