منذ أن اعتلى الملك محمد السادس عرش المملكة المغربية في 23 يوليو 1999، والمغرب يسير على مسار تحولي طويل المدى، تتقاطع فيه الإصلاحات السياسية والاقتصادية مع الرهانات الجيوسياسية الكبرى في إفريقيا والعالم العربي. بعد ستة وعشرين عامًا من الحكم، يمكن القول إن الملك قاد بلاده نحو إعادة هيكلة عميقة للمؤسسات، وتعزيز المكانة الإقليمية، رغم التحديات الداخلية والإقليمية المستمرة. بين قضية الصحراء، والنموذج التنموي، والدبلوماسية الإفريقية، ومواقف المملكة من القضايا العربية، تتجلى معالم مغرب جديد يوازن بين الواقعية والطموح.
قضية الصحراء: دبلوماسية
الحسم والتكريس الميداني
منذ بدايات العهد الجديد،
انتقل المغرب في تعامله مع ملف الصحراء من موقف دفاعي تقليدي إلى استراتيجية هجومية
قائمة على المبادرة والشرعية الدولية.
في سنة 2007، اقترح
المغرب خطة الحكم الذاتي، التي اعتُبرت من قبل مجلس الأمن "جادة وذات مصداقية"،
وتوالت بعدها الاعترافات والدعم الدولي:
الولايات المتحدة اعترفت
بسيادة المغرب على الصحراء سنة 2020.
أكثر من 85 دولة فتحت
قنصلياتها في العيون والداخلة حتى منتصف 2025.
المغرب استثمر أكثر
من 80 مليار درهم (8 مليارات دولار) في مشاريع تنموية بالصحراء ضمن النموذج التنموي
الجهوي.
كما تمكّن المغرب من
إنهاء التهديدات المتكررة في معبر الكركرات سنة 2020، وترسيخ حضوره العسكري والمدني،
مما ضيّق الخناق على جبهة البوليساريو المدعومة جزائريًا.
تحولات اقتصادية وصناعية
عميقة
شهد المغرب قفزة اقتصادية
نوعية في عهد الملك محمد السادس، حيث تطور الناتج الداخلي الخام من 40 مليار دولار
سنة 1999 إلى 142 مليار دولار سنة 2023.
أبرز المحاور:
صناعة السيارات أصبحت
القطاع التصديري الأول، بإنتاج سنوي يفوق 700 ألف سيارة، وصادرات تجاوزت 14.9 مليار
دولار سنة 2023.
إطلاق مشاريع صناعية
عملاقة مثل طنجة ميد، الذي يُصنف ضمن أكبر 25 ميناء في العالم.
ريادة في الطاقات المتجددة:
محطة نور ورزازات للطاقة
الشمسية (580 ميغاواط).
تحقيق 38% من إنتاج
الكهرباء من مصادر متجددة في 2024، مع هدف بلوغ 52% سنة 2030.
رغم هذه الإنجازات،
يبقى معدل البطالة في مستوى مقلق، حيث بلغ 12.9% سنة 2024، مع نسب أعلى في صفوف الشباب
الحضري.
الحقوق والحريات: إصلاحات
تدريجية وسط التحديات
تبنّى العهد الجديد
مسارًا إصلاحيًا متدرجًا في مجال حقوق الإنسان:
تأسيس هيئة الإنصاف
والمصالحة سنة 2004، وعالجت أكثر من 20 ألف ملف من ضحايا الانتهاكات الجسيمة، مع صرف
تعويضات فاقت 2 مليار درهم.
إصلاح مدونة الأسرة
سنة 2004، ومن المرتقب تحديثها مجددًا لإعطاء المرأة مزيدًا من الحقوق، حسب الخطاب
الملكي في 2022.
اعتماد ميثاق جديد
للعدالة، وتحديث المنظومة القانونية، رغم انتقادات متكررة من منظمات حقوقية بشأن حرية
التعبير ومحاكمة الصحفيين.
المغرب الرياضي: حلم
مونديالي بنكهة إفريقية
الاستثمار الرياضي
في المغرب لم يكن هامشيًا، بل خيارًا استراتيجيًا مدروسًا:
إنشاء أكاديمية محمد
السادس لكرة القدم سنة 2009، التي خرّجت نجومًا عالميين.
نصف نهائي كأس العالم
2022 أعاد المغرب إلى واجهة كرة القدم العالمية، وأكد نجاعة التكوين والبنية التحتية.
فوز المغرب بشرف تنظيم
كأس العالم 2030 إلى جانب إسبانيا والبرتغال، يُعد اعترافًا دوليًا بثقة الفيفا في
قدرات المملكة التنظيمية.
إفريقيا جنوب الصحراء:
العودة الكبرى بتوقيع محمد السادس
بعد عودة المغرب إلى
الاتحاد الإفريقي سنة 2017، بدأت الرباط في رسم سياسة إفريقية متعددة الأبعاد:
أكثر من 1000 اتفاقية
تعاون ثنائي وُقعت خلال العقد الأخير.
انتشار البنوك المغربية
في أكثر من 20 دولة إفريقية.
مشروع أنبوب الغاز
المغربي-النيجيري (5600 كلم) من بين أكبر المشاريع الطاقية في إفريقيا.
حضور روحي مؤثر عبر
مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، التي تسعى لمحاربة التطرف بمرجعية دينية معتدلة.
القضية الفلسطينية
والحرب على غزة: التزام تاريخي بموقف ثابت
رغم استئناف العلاقات
مع إسرائيل سنة 2020، حافظ المغرب على دعم ثابت للقضية الفلسطينية:
ترؤس الملك للجنة القدس.
إرسال مساعدات إنسانية
عاجلة إلى غزة سنة 2023، عبر جسر جوي.
دعم متواصل لـ"وكالة
بيت مال القدس الشريف"، التي موّلت أكثر من 200 مشروع في مجالات السكن والصحة
والتعليم.
توتر مع الجزائر وتونس:
جغرافيا قريبة، مواقف متباعدة
شهدت العلاقات المغربية
الجزائرية تصعيدًا حادًا:
قطع العلاقات من طرف
الجزائر في أغسطس 2021، واتهامات غير مثبتة للمغرب بالتجسس و"التآمر".
فشل الاتحاد المغاربي
في ظل تصلب الجزائر وتونس، خاصة بعد استقبال قيس سعيّد لزعيم البوليساريو سنة 2022.
المغرب ركّز بدلًا
من ذلك على تعزيز تحالفاته مع دول الخليج، والاندماج في إفريقيا الغربية.
آفاق المغرب: من دولة
ناشئة إلى قوة إقليمية صاعدة
يُراهن المغرب على
تحقيق قفزة نوعية في العقد القادم من خلال:
تنفيذ أهداف النموذج
التنموي الجديد (2021-2035)، الذي يهدف لرفع النمو إلى 6%، وتقليص الفوارق الاجتماعية.
تسريع التحول الرقمي،
والاستثمار في اقتصاد المعرفة.
تعزيز دوره في أمن
الساحل الإفريقي، خصوصًا مع تراجع دور الجزائر في المنطقة.
خلاصة ختامية
بعد 26 سنة من الحكم،
استطاع الملك محمد السادس أن يرسم لمغربه مسارًا تحديثيًا متوازنًا بين المحافظة والجرأة،
بين الخصوصية الوطنية والانفتاح العالمي. هو مغرب يخطو بثبات نحو موقع الدولة الإقليمية
المؤثرة، وسط إقليم يعاني من الانقسامات والصراعات. والمستقبل، كما تُنبئ به الأرقام،
لا يزال واعدًا… شرط أن تتواصل الإصلاحات، ويتعمق المسار الديمقراطي، ويتجدد الحلم
الجماعي بوطن العدالة والتنمية والكرامة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق