الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، يوليو 15، 2025

الوجه النفسي لاقتصاد الانتباه في العصر الرقمي: عبده حقي


في زحمة النقرات والتمريرات، حيث تتقاطع الحياة الواقعية مع الزمن الافتراضي، تشكّل الإعجابات على منصات التواصل الاجتماعي عملةً رمزية ومقياسًا غير مرئي لقيمة الذات. قد يبدو الأمر لأول وهلة مجرّد تفاعل رقمي عابر، لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا وعمقًا، إذ تنغرس هذه الظاهرة في البنية النفسية للإنسان المعاصر، وتعيد تشكيل علاقته بذاته وبالآخرين، ضمن منطق تسليعي جديد للمشاعر والانفعالات.

لا يمكن فهم هذه الظاهرة دون الإحالة إلى المفهوم الذي طوّره «هيربرت سيمون» في سبعينيات القرن الماضي حول "اقتصاد الانتباه"، حيث لم تعد الندرة في المعلومات، بل في الانتباه ذاته. في هذا السياق، باتت "الإعجابات" وحدة قياس لهذا الانتباه، ووسيلة لتثبيت وجود رقمي يتغذى على التفاعل، حتى غدا السكون الرقمي، أو ما يسمى بال

zero engagement»,  مرادفا للغياب أو الفشل.

في كتابه «The Shallows» "الضحالة" يشير «نيكولاس كار» إلى أن الإنسان الرقمي بات يعيش في وضعية دائمة من التشتت، حيث تسود ردود الأفعال القصيرة والسريعة على حساب التأمل العميق والانخراط المعرفي الجاد. تترسّخ هذه الوضعية النفسية في بنية المنصات الاجتماعية التي لا تكتفي بعرض المحتوى، بل تعيد صياغته وفقًا لخوارزميات مبنية على التفضيلات والتفاعلات السابقة، مما يحوّل المستخدم تدريجيًا إلى كائن يبحث عن "الإعجاب" أكثر مما يبحث عن المعنى.

تنبع قوة الإعجابات من بعدها الرمزي أكثر من الرقمي. فالمراهق الذي ينشر صورة على "إنستغرام" ويتلقى مئات الإعجابات لا يشعر بالرضا فقط، بل ببروز اجتماعي. وقد أظهرت دراسة أجرتها «جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلس» أن مناطق المكافأة في الدماغ، مثل النواة المتكئة («nucleus accumbens») تُفعّل بشكل مكثف عند تلقي الإعجابات، بنفس الطريقة التي تُفعل بها عند تناول الشوكولاتة أو تلقي المال. هكذا، يتحوّل التفاعل الرقمي إلى محفّز عصبي وإلى نوع من الإدمان النفسي.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: ماذا يحدث حين يغيب التفاعل؟ هنا ينقلب الأمر إلى أرق وجودي، حيث يعاني الفرد مما يمكن تسميته بـ "فراغ المعنى الرقمي". فبين من يربط قيمته بعدد متابعيه، ومن يقيس تأثيره بحجم تفاعلاته، يتحوّل غياب الإعجابات إلى تهديد لهوية هشة تتغذى على الانعكاس الافتراضي للذات.

إن هذا السلوك يتجاوز البعد الفردي ليكتسب طابعًا ثقافيًا عامًا. فالمؤسسات الإعلامية، والشخصيات العامة، وحتى الفنانين، باتوا يعيدون تشكيل خطابهم ومحتواهم بما يتلاءم مع منطق الإعجابات والمشاركات، ما يعني أن الفضاء الرقمي قد خلق نوعًا من "الديمقراطية الزائفة" التي تحكمها العواطف اللحظية لا العمق المعرفي. هذا ما يحذّر منه «مارك فيشر» في كتابه  «Realism Capitalist»، حيث يرى أن الرأسمالية الرقمية لا تكتفي بالتحكم في البنية الاقتصادية، بل تُعيد تشكيل البنية النفسية والاجتماعية للمجتمعات الحديثة.

ربما من هنا نفهم لماذا أقدمت "إنستغرام" في مرحلة ما على تجربة إخفاء عدد الإعجابات في بعض الدول، ضمن محاولة للحد من القلق الرقمي المرتبط بالقبول الاجتماعي. غير أن هذه الخطوة لم تمس جوهر المشكلة، لأنها لم تغير من منطق المنصة القائم على التقدير الفوري. فالحاجة إلى القبول ليست وليدة العصر الرقمي، لكنها اليوم تُمارس ضمن بيئة خوارزمية تُكثف من حضورها وتستغلها تجاريًا.

هكذا يصبح هوس الإعجابات انعكاسًا لمجتمع يسير على إيقاع التحفيز الفوري، ويعيش في زمن أصبح فيه التأمل نوعًا من المقاومة الثقافية. في مواجهة هذا الواقع، لا بد من استعادة العلاقة المتوازنة مع الذات خارج منطق التفاعل الرقمي، وإعادة الاعتبار للعمق، وللتجربة الإنسانية التي لا تختزلها "نقرة" أو "رمز تعبيري".

في النهاية، لعلّ ما نحتاجه اليوم ليس مزيدًا من الإعجابات، بل مزيدًا من الوعي. وعي بأننا لسنا صورًا في واجهة عرض افتراضية، ولسنا محتوى خاضعًا للقياس اللحظي، بل ذوات متعدّدة الوجوه، تحتاج إلى المعنى أكثر مما تحتاج إلى القبول السطحي. فالحرية الحقيقية، كما كتب «إريك فروم»، تبدأ حين نكفّ عن البحث عن أنفسنا في عيون الآخرين، سواء كانت تلك العيون حقيقية أو افتراضية.

0 التعليقات: