تشهد القراءة تحوّلًا جذريًا يعيد تشكيل علاقتنا بالنصوص واللغة والمعنى. لم تعد القراءة مجرّد تمرين عقلي يتم بين دفّتي كتاب، بل أصبحت تجربة جسدية متكاملة، حيث يتداخل الإدراك البصري مع الإحساس المكاني، وتندمج الحروف مع الصور، وتتماهى الذات القارئة مع النص في عالم افتراضي محاط بالصوت والحركة والضوء. فما الذي يحدث فعلًا لفعل القراءة حين يدخل النص جسد المستخدم الافتراضي ويتماهى معه؟
يرى الباحث الكوري-الألماني
بيونغ تشول هان أن المجتمعات الرقمية الحديثة تتجه نحو تَفَكُكٍ في العمق الرمزي للنصوص،
حيث تسود الشفافية وتُفقد اللغة أبعادها التأملية والبطيئة. لكن الواقع الافتراضي،
paradoxically، " بشكل متناقض " قد يعيد شيئًا من تلك
الأبعاد عبر تمثيل النصوص جسديًا. ففي عالم يتم فيه التفاعل مع النصوص من خلال التحرك
داخلها، ولمس عناصرها، والتأثير في سرديتها عبر قرارات جسدية، يصبح القارئ «مؤديًا»
بقدر ما هو متلقٍ.
يشكل الواقع الافتراضي (VR) مرحلة متقدمة من الوسائط الرقمية التي انتقلت
بالقراءة من طور الشاشات المسطحة إلى فضاءات حية. ومن أبرز التطبيقات التي تجسد هذا
الانتقال، مشروع
"VR Book" الذي أطلقته
جامعة ستانفورد بالشراكة مع باحثين في علم الأعصاب، والذي يتيح للمستخدمين دخول فضاء
قصصي يعاد تشكيله بحسب تفاعلهم مع الأحداث. لا يُقرأ النص هنا بل يُعاش، ويتم تأويله
من خلال الجسد لا من خلال التحليل المجرد فقط. وهنا يكمن التحول الأساسي: لم تعد القراءة
فعل فهم فحسب، بل أصبحت تجربة معيشة، قد تكون أقرب إلى المسرح أو الرقص منها إلى التأويل
الأدبي التقليدي.
لكن هذا التحول يثير
أيضًا أسئلة نقدية جوهرية. هل يفقد النص سلطته التأويلية حين يتحول إلى بيئة قابلة
للتخصيص؟ وهل يؤدي الانغماس الحسي الكامل في النصوص إلى تحييد المسافة التأملية التي
كانت تميز القراءة الورقية؟ يشير المفكر الفرنسي بول ريكور إلى أن «المسافة الجمالية»
ضرورية لفعل التأويل، إذ تسمح للقارئ بفصل الذات عن النص من أجل إعادة تأطيره ضمن بنية
المعنى. أما في فضاءات الواقع الافتراضي، فتغيب هذه المسافة تدريجيًا، حيث يتم إذابة
الحدود بين القارئ والنص، ليصبح التفاعل لحظيًا وغريزيًا في كثير من الأحيان، مما قد
يقلص فرص التحليل النقدي العميق.
من جهة أخرى، يمكن
اعتبار الواقع الافتراضي فرصة ذهبية لإعادة تعريف القراءة بطريقة أكثر شمولًا وتعددًا.
فالنصوص الافتراضية قد تدمج بين الرواية والمسرح والفن التشكيلي وحتى الألعاب التفاعلية،
ما يتيح للمتلقي أن يخوض تجربة قرائية ذات مستويات متعددة. في هذا السياق، يصبح القارئ
«مشاركًا في التأليف»، بل و»مُجَسِّدًا» للمعنى، لا مجرد باحثٍ عنه في طبقات الحبر
والورق. وهو ما أشار إليه ميخائيل باختين حين تحدث عن «تعدد الأصوات» داخل النص، وهو
ما يتجلى اليوم في النصوص الافتراضية التي تتغير بحسب كل قارئ، بل بحسب كل لحظة قراءة.
في تجارب مثل "Cloud
Chamber" و"The Under
Presents"،
تمكّن الفنانون من دمج السرديات التفاعلية ضمن بيئات افتراضية، حيث يتحول النص إلى
مشهد قابل للتجوال والتأمل، وتتحول الشخصيات إلى هياكل ثلاثية الأبعاد تتفاعل مع المستخدم.
وهذه التجارب لا تمحو اللغة، بل تمنحها بعدًا إضافيًا، إذ تصبح الكلمة صورة، والحرف
حركة، والمعنى حدثًا. وهنا يكمن الثراء الجديد للقراءة في عصر الواقع الافتراضي: ليس
في اختزال النص، بل في «توسيع معناه عبر الحواس».
ومع ذلك، يظل التحدي
الأساسي في ضمان ألا تتحول هذه التجارب إلى مجرد ألعاب بصرية، تفرغ النص من عمقه، وتُلهي
عن جوهره عبر بهرجة المؤثرات. فكما نبّهت الباحثة نادية هناوي في كتابها "الذكاء
الاصطناعي: التأهيل والتهويل"، فإن الاعتماد على الوسائط الذكية في إنتاج المحتوى
الأدبي قد يقود إلى تسطيح المعاني ما لم يتم ضبط العلاقة بين الشكل والمضمون.
إننا أمام حقبة جديدة
من القراءة، لا تنكر الكتاب الورقي، بل تعيد تأويله. فالنص لم يمت، لكنه خرج من جسده
القديم إلى جسد آخر. وقد يكون من الأدق القول إن القارئ نفسه لم يعد كما كان: لم يعد
يجلس بهدوء بين دفّتي كتاب، بل يلبس خوذة الواقع الافتراضي، ويتجول داخل المعنى كمن
يتجول في غابة من الرموز المجسدة. وهذه ليست نهاية القراءة، بل بدايتها الجديدة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق