الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، يوليو 19، 2025

كيف تخلخل وسائل التواصل توازننا النفسي؟ عبده حقي


في كل مرة أفتح فيها هاتفي وأجد نفسي أتنقل لاشعوريًا بين تطبيق وآخر، أدرك حجم التغير العميق الذي أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي في نسيجي النفسي، كما لو أنني أصبحت رقماً إضافياً في جدول خوارزميات لا تعترف بالتوقف. لقد أصبحت حياتنا النفسية رهينة إشعارات، إعجابات، ومقارنات، فانتقلنا من الشعور بالذات إلى التحديق فيها عبر مرايا الآخرين.

لم أكن وحدي في هذا الإدراك المتأخر. تقارير علمية عديدة بدأت تضع الأصبع على الجرح. من أبرز هذه الدراسات ما نشرته "الجمعية الأمريكية لعلم النفس" (APA) عام 2023، والتي أكدت أن الاستخدام المكثف لمنصات مثل إنستغرام وتيك توك يرتبط بارتفاع نسب القلق والاكتئاب بين فئة الشباب، بل حتى الشعور بـ"الفراغ الوجودي"، ذلك الشبح الذي يتسلل إلينا من خلف الصور البراقة والقصص المصطنعة.

لقد تحولت منصات التواصل إلى مسارح عملاقة تُعرض فيها الذوات كعروض مسرحية، تتزين بالابتسامات الرقمية، بينما تُخفي خلف الستار إحساسًا متزايدًا بالوحدة والقلق. كيف لا، ونحن نقيس قيمتنا بعدد المتابعين ونتعامل مع "الإعجاب" كما لو أنه مقياس وجودي؟ كما لاحظت الباحثة «شوشانا زوبوف» في كتابها «عصر رأسمالية المراقبة»، فإن هذه المنصات لا تكتفي بجمع بياناتنا، بل تعيد تشكيل وعينا ورغباتنا، فتجعلنا نشتهي ما يوافق منطقها ويُرضي جمهورها.

أذكر كيف بدأت أشعر بأنني مطالب بتوثيق كل لحظة جميلة أعيشها، لا لكي أستمتع بها، بل لأشاركها. إنها لحظة تحول الإنسان من فاعل في حياته إلى مُنتِج محتوى عنها. وهذا التحول ليس فقط تقنيًا، بل وجوديًا. لقد بدأنا نعيش في زمن "العين الخارجية" كما سماها ميشيل فوكو، حيث نراقب أنفسنا باستمرار، ونخضع لحكم الجمهور الذي لا ينام.

وهنا يتسلل فينا أثر نفسي خبيث: المقارنة الدائمة. نعتقد خطأ أن حياة الآخرين أكثر جمالًا، لأننا نراها من زاوية مصفّاة ومصمّمة بعناية. وهكذا، يتحول التفاعل الاجتماعي من مصدر دعم إلى باعث على القلق. وقد أوضحت دراسة لمجلة «Lancet Psychiatry» أن الفتيات المراهقات اللاتي يستخدمن وسائل التواصل لأكثر من ثلاث ساعات يوميًا أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب بنسبة 26%.

ولم يعد الأثر النفسي يقتصر على الفرد، بل يمتد إلى البنية الاجتماعية. لقد انخفضت قدرتنا على التركيز، وأصبحت عواطفنا متقلبة كأنها تتبع نمط الموجات التي تتلاعب بها الخوارزميات. في لحظة نشعر بالانتماء، وفي أخرى يغمرنا شعور بالإقصاء. لا عجب أن عيادات العلاج النفسي باتت تستقبل شبابًا يعانون مما يُعرف بـ “اضطراب القلق الرقمي” أو “الخوف من فوات الشيء (FOMO).

ككاتب مغربي ومتابع لتطورات الثقافة الرقمية، لا أطرح هذه الملاحظات بدافع التشاؤم، بل بهدف المراجعة. لا يمكنني إنكار ما أتاحته هذه الوسائط من إمكانات للتواصل والتعبير، لكنها في الوقت نفسه فتحت بوابة ضخمة للاضطرابات النفسية الدقيقة، التي لا تُرى بالعين المجردة ولكنها تفتك بالبنية النفسية للفرد المعاصر ببطء.

لقد بات من الضروري أن نُعيد التفكير في علاقتنا بهذه الأدوات. هل نستخدمها، أم أننا أصبحنا مستخدمين فيها؟ هل ما نشعر به من فرح رقمي هو حقيقي أم مجرد صورة مكياج نفسي؟ إن اللحظة الراهنة تتطلب وعيًا يقظًا، وتربية رقمية نفسية لا تقل أهمية عن التربية الأخلاقية والاجتماعية.

وربما آن الأوان أن نخصص مساحة في مناهجنا التربوية والصحية لدراسة الأثر النفسي لوسائل التواصل، وأن نعتبر الصحة النفسية في البيئة الرقمية أولوية. لا يكفي أن نتحدث عن "الإدمان الرقمي"، بل علينا أن نتعامل مع آثاره كقضية مجتمعية تهدد التوازن النفسي للأفراد، كما نحذر من التلوث البيئي أو الأزمات الاقتصادية.

0 التعليقات: