الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، يوليو 20، 2025

قراءة في كتاب «عصر رأسمالية المراقبة» للباحثة شوشانا زوبوف: ترجمة عبده حقي


في كتابها الرائد ««عصر رأسمالية المراقبة»«، تقدم الباحثة وعالمة النفس الاجتماعي شوشانا زوبوف واحدة من أكثر الأطروحات تأثيرًا في أدبيات الاقتصاد الرقمي والاجتماع السياسي في القرن الحادي والعشرين. الكتاب، الذي نُشر عام 2019، يمثل صرخة نقدية مدوية ضد ما تصفه زوبوف بـ"النسق الاقتصادي الجديد" الذي نشأ في ظل هيمنة شركات التكنولوجيا العملاقة مثل غوغل وفيسبوك  وأمازون، والذي لا يكتفي بمراقبة سلوكيات الأفراد بل يعيد تشكيلها ويستثمرها لتحقيق أرباح هائلة دون رقابة ديمقراطية أو وعي شعبي كافٍ.

زوبوف، الأستاذة السابقة في كلية هارفارد لإدارة الأعمال، تذهب إلى ما هو أبعد من مجرد انتقاد لممارسات جمع البيانات الشخصية، فهي تصف هذا النظام الناشئ بأنه "تحول جذري في الرأسمالية"، حيث لم تعد الثروة تُبنى على السيطرة على وسائل الإنتاج أو حتى المعرفة، بل على "التنبؤ بالسلوك البشري والتأثير فيه". وهكذا، لا تكتفي الشركات بجمع البيانات السلوكية من كل تفاعل رقمي، بل تقوم بتحليلها وتغذيتها في خوارزميات معقدة تهدف إلى تعديل القرارات المستقبلية للأفراد، سواء في الاستهلاك أو السياسة أو حتى العواطف الشخصية.

يمتد الكتاب على أكثر من 700 صفحة من التحليل النظري والدراسات الميدانية، ويعتمد على تراكم معرفي في علم النفس والسوسيولوجيا والاقتصاد والتاريخ. ومن أبرز أفكار زوبوف أن شركات مثل غوغل لم تكن فقط تستغل البيانات لتقديم خدمات أفضل، بل كانت – منذ وقت مبكر – تبيع "نوايا المستخدمين المستقبلية" لشركات الإعلانات، ما أدى إلى ولادة ما تسميه "الأسواق السلوكية"، وهي فضاءات جديدة مربحة تقوم على تحويل تجاربنا الشخصية إلى مواد قابلة للقياس والتسويق.

تكمن أهمية هذا الطرح في أنه يسلط الضوء على انزياح خطير في العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. فبدلاً من أن تكون أدواتنا الرقمية خادمة لحاجاتنا ومُعززة لحريتنا، أصبحت وسائل للهيمنة الناعمة، حيث تُستخدم ضدنا دون علمنا، وبإذعان ضمني منا. تشير زوبوف إلى أن هذا النموذج الجديد من الرأسمالية لم يمر عبر قنوات التشريع ولا حظي بموافقة اجتماعية، بل فرض نفسه عبر منطق الابتكار التكنولوجي والانبهار بالسرعة والكفاءة.

من الناحية الفلسفية، يدعو الكتاب إلى مراجعة عميقة لمفاهيم الخصوصية والحرية والإرادة. فالخصوصية، كما تقول زوبوف، ليست مجرد اختيار فردي بين مشاركة المعلومات أو حجبها، بل هي "الشرط الجوهري للحرية". وإذا ما تحولت الخصوصية إلى سلعة، فإن الحرية نفسها تصبح مهددة، ويُعاد تشكيل المواطن كموضوع للضبط والمراقبة وليس كفاعل مستقل. وهذا ما يجعل رأسمالية المراقبة مختلفة جوهريًا عن النماذج الرأسمالية السابقة، إذ إنها تستهدف "الذات الداخلية" وليس فقط السلوك الظاهري.

من الناحية السياسية، يحمل الكتاب نقدًا لاذعًا للتواطؤ الضمني بين الحكومات والشركات الرقمية. ففي أعقاب هجمات 11 سبتمبر، منحت الحكومات – خصوصًا في الولايات المتحدة – تفويضًا مفتوحًا للتجسس الرقمي باسم الأمن القومي، وهو ما وفر بيئة خصبة لنمو رأسمالية المراقبة دون حدود. وتشير زوبوف إلى أن صمت الحكومات لم يكن ناتجًا عن الجهل، بل عن مصلحة مباشرة في تقاطع أهداف السيطرة السياسية مع آليات الاستغلال التجاري.

تستند زوبوف في تحليلاتها إلى أمثلة صادمة: من تجارب فيسبوك في تعديل المزاج الجماعي للمستخدمين دون علمهم، إلى تدخل شركات تحليل البيانات في الانتخابات (كما في فضيحة  Cambridge Analytica)، وصولًا إلى استخدامات الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالجرائم أو توجيه قرارات المحاكم. إنها تؤكد أن التهديد لا يكمن في "البيانات" بحد ذاتها، بل في من يملكها، وكيف تُستخدم، ومن يُساءل بشأنها.

لكن ما يُميز الكتاب أيضًا هو دعوته إلى الأمل والمقاومة. فزوبوف لا تسقط في فخ الحتمية التكنولوجية، بل تؤمن بقدرة المجتمعات على استعادة السيطرة على مستقبلها الرقمي. وتدعو إلى إقامة منظومات قانونية وأخلاقية جديدة تضع حدودًا لهذا التوحش التكنولوجي، وتعيد الاعتبار للمواطن باعتباره غاية التقنية لا وسيلتها.

لقد كان لكتاب زوبوف أثرٌ عالميٌّ واضح، إذ تمت ترجمته إلى عدة لغات، وتناولته مراكز أبحاث ومفكرون كبار مثل نعوم تشومسكي ويوفال نوح هراري، واعتبرته مجلة

«The Financial Times» واحدًا من أهم كتب العقد الأخير. كما أثر على النقاشات الجارية حول تشريعات حماية البيانات في أوروبا (مثل اللائحة العامة لحماية البيانات GDPR)  وفي الولايات المتحدة.

في النهاية، يمكن القول إن ««عصر رأسمالية المراقبة»« ليس مجرد كتاب أكاديمي بل مانيفستو سياسي وفكري، يوقظ وعينا من سبات الرقمنة المطلقة، ويدعونا إلى التفكير النقدي في مستقبل نرسمه نحن، لا يُرسم لنا خلسة. إنه نداء للدفاع عن الإنسان في عصر تتحول فيه "المعرفة" إلى "قوة"، وتُختزل فيه الحياة البشرية إلى نمط بيانات قابل للتنبؤ والتعديل.

««المراجع«

 

« Zuboff, Shoshana. «The Age of Surveillance Capitalism». PublicAffairs, 2019.

« Zeynep Tufekci, “The real reason Facebook won't change,” «The New York Times», 2019.

« Naomi Klein, “Big Tech’s Big Defector,” «The Intercept», 2019.

« Regulation (EU) 2016/679 of the European Parliament (GDPR).

0 التعليقات: