الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الثلاثاء، ديسمبر 23، 2025

حين تتحول كأس إفريقيا إلى محاكمة شعبية : عبده حقي

 


لن تكون كأس أمم إفريقيا 2025، التي يحتضنها المغرب، مجرد تظاهرة رياضية قارية تُضاف إلى روزنامة البطولات المقامة بالمغرب، بل تحولت – من حيث لا يحتسب كثير من الحاقدين – إلى زلزال صامت في وعي وتفكير آلاف الزوار العرب، وعلى رأسهم الجزائريين، الذين دخلوا المغرب وهم محمّلون سلفا بخطاب رسمي عدائي، وسيغادرونه بأسئلة جارحة لا جواب لها داخل حدود بلدهم. لقد تحولت الرحلة الكروية، في وجدان كثيرين، إلى رحلة مقارنة قاسية بين نموذجين للدولة، ونموذجين للحكم، ونموذجين لمستقبلين متناقضين.

منذ لحظة الوصول إلى المطارات المغربية، يبدأ الشرخ الأول من السردية. مطارات واسعة، نظيفة، رقمية، تسير وفق منطق الزمن والكفاءة، لا وفق منطق الفوضى والارتجال. ثم قطارات فائقة السرعة تشق البلاد من طنجة إلى الدار البيضاء وقريبا مراكش وأغادير، في مشهد لم يعتد عليه القادمون من دولة تملك الغاز والبترول، لكنها تعجز عن توفير نقل محترم لمواطنيها مثلما هو الشأن في المغرب. بعد ذلك، مدن عصرية مهيكلة، طرق سيّارة، فنادق راقية، مطاعم فاخرة، وبنية تحتية سياحية ورياضية تُدار بعقلية دول تعرف ماذا تريد من الحاضر والمستقبل.

هنا لا تعود المقارنة اختيارية. هي مقارنة فرضت بالقوة. فالمشجع الجزائري لا يحتاج إلى قراءة تقارير دولية ولا إلى تصديق إعلام أجنبي، لأن الواقع يصفعه بشكل مباشر. المغرب الذي قُدِّم له منذ سنوات الحرب الباردة كدولة “هامشية” أو “رجعية”، يظهر أمامه اليوم كبلد يشتغل، يخطط، وينفذ. بلد يستثمر في صورته، في شبابه، في رياضته، وفي مكانته القارية والدولية، دون ضجيج أيديولوجي ولا خطابات ثورية جوفاء.

الأخطر من كل ذلك أن هذا التقدم المغربي المبهر لا يبدو استثنائيًا ولا معجزة خارقة، بل نتيجة خيارات سياسية واضحة: الانفتاح، الاستقرار، الاستثمار طويل الأمد، وربط الرياضة بالتنمية والسياحة والدبلوماسية الناعمة. وهذا بالضبط ما يجعل الصدمة موجعة في الوعي الجزائري، لأن السؤال الذي يفرض نفسه ليس: كيف تقدم المغرب؟ بل: لماذا فشلت الجزائر؟

عند هذه النقطة، يبدأ الانهيار الداخلي للسردية العسكرية الرسمية. فكل ما لقّنته السلطة الجزائرية لشعبها عن “العدو الخارجي”، و”المؤامرات”، و”القوة الضاربة”، تبخر أمام تجربة معيشة بسيطة. لم يعد العدو في الخارج، بل صار في الداخل. في سوء التسيير، في الفساد البنيوي، في عسكرة السياسة، وفي نظام يستهلك ثروات البلاد لإطالة عمره الاستبدادي، لا لبناء دولة.

لكن اللحظة الحاسمة لا تقف في المغرب، بل عند العودة إلى الجزائر. هناك، تصبح الصدمة مضاعفة. مطارات متقادمة، طوابير طويلة، موظفون محبطون، خدمات رديئة، وبنية تحتية تذكّر بزمن البؤس الشيوعي. والأسوأ من ذلك، الإحساس بأن الزمن متوقف، وأن البلاد تدور في حلقة مفرغة منذ عقود، بينما الجيران يتقدمون بخطى ثابتة.

هنا يتحول الإعجاب بالمغرب إلى ثورة مكبوتة ومؤجلة . غضب لا يوجَّه نحو المغرب، بل نحو السلطة الحاكمة التي كذبت، وضللت، ومنعت شعبها من حق المقارنة. فالنظام الجزائري لا يخاف من المغرب كدولة، بل يخاف من المغرب كمرآة. مرآة تكشف أن التخلف ليس قدرًا، وأن الفشل ليس حتميًا، وأن الثروة الطبيعية لا تصنع دولة إن لم تصنعها الإرادة السياسية.

هل يمكن لهذه الصدمة أن تترجم إلى ثورة اجتماعية مباشرة؟ ربما ليس بالمعنى الكلاسيكي. لكن ما حدث أخطر وأعمق. لقد تصدّع جدار الوعي. والأنظمة السلطوية تعرف جيدًا أن أخطر ما يمكن أن يصيبها ليس المظاهرات، بل فقدان المصداقية. حين يتوقف المواطن عن تصديق الخطاب الرسمي، تبدأ نهاية الخوف.

إن كأس إفريقيا 2025 المقامة في ست مدن مغربية سوف تلعب دورًا لم تستطع لعبه سنوات من المعارضة السياسية ولا تقارير المنظمات الدولية. لقد سمحت للجمهور الجزائري بأن يشاهد، ويقارن، ويستنتج بنفسه. وهذا بالضبط ما تخشاه الأنظمة الستالينية المغلقة: المواطن الذي يفكر خارج القوالب الجاهزة.

إن كرة القدم هنا ليست لعبة فحسب ، بل كاشفًا سياسيًا. الملعب لم يكن ساحة تنافس رياضي فقط، بل فضاءً للمقارنة الحضارية. والمدرجات لم تكن فقط مكانًا للهتاف، بل مختبرًا لإعادة تشكيل الوعي. ومن يعود من المغرب وهو يحمل هذه الصور الحضارية ، لن يكون وعيه كما كان قبلها.

قد ينجح النظام الجزائري في قمع الغضب، في إسكات الأصوات، وفي إعادة تدوير الخطاب، لكنه لن يستطيع محو التجربة. والتجربة، حين تُزرع في الذاكرة الجماعية، تتحول إلى قنبلة مؤجلة. قنبلة اسمها: لماذا نحن قابعون هنا، والمغاربة سائرون هناك؟

وهذا السؤال، وحده، كفيل بإرعاب قصر المرادية أكثر من أي خصم خارجي.


0 التعليقات: