الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، يوليو 07، 2025

القرية الافتراضية: بعث الروح الجماعية في فضاء رقمي: عبده حقي


لقد برزت "القرية الافتراضية" كحلٍّ مفاجئ، بل وربما ضروري، لإعادة ترميم الشعور بالانتماء. لم يعد الحيّ ولا الساحة العمومية مركز الاجتماع، بل تحوّل العالم الرقمي إلى البديل الأكثر قابلية للحياة في عالم يعيد صياغة نفسه بلا هوادة.

أصبح مفهوم "المجتمع" قابلاً لإعادة التشكيل والتموضع في فضاء الإنترنت، لا كاستعارة تقنية، بل كتحول وجودي. إن الشبكات الاجتماعية، المنتديات الرقمية، وخوادم الألعاب التشاركية، لم تعد مجرد أدوات للترفيه أو التواصل، بل أضحت فضاءاتٍ حقيقية يعاد فيها بناء معنى الجماعة. لم يكن ذلك التحول اعتباطيًا، بل نتيجة متراكمة لانهيارات متعددة: من تقلص المساحات العامة في المدن، إلى تسارع وتيرة الحياة، إلى تفكك الأسرة الممتدة، إلى تنامي العزلة النفسية.

يشير عالم الاجتماع الأميركي «مانيويل كاستلز» في كتابه "شبكات الغضب والأمل" إلى أن المجتمعات الحديثة لم تعد تقوم على الجغرافيا بل على الشبكات. لقد تحولت الهوية من كونها جغرافية مرتبطة بالمكان إلى كونها رقمية تُبنى حول الاهتمامات والقضايا المشتركة، مهما ابتعدت المسافات. فمجموعة فيسبوك تجمع مزارعين من الصحراء المغربية مع تقنيين من كندا، وشبكة نقاش في "ريديت" توحّد مشاعر آلاف الشباب حول ظاهرة ثقافية واحدة، تمامًا كما كانت ساحة السوق في القرية توحّد الجميع حول أخبار المطر والموسم.

ومع ذلك، فإن القرية الافتراضية ليست فردوسًا رقمياً خالصًا. فهي تحمل في بنيتها تناقضًا جوهريًا: إنها تتيح القرب وتحفّز العزلة في آنٍ معًا. فالتفاعلات الرقمية، رغم كثافتها وتنوعها، تبقى مشروطة بالإشارات المرسلة على شاشة، خالية في الغالب من حرارة الجسد ونبرة الصوت ولمسة الكتف. هذا ما دفع الباحثة «شيري توركل» إلى التساؤل في كتابها "Alone Together": هل أصبحنا "معًا ولكن وحيدين"؟ وهل تخلق هذه المساحات مجتمعًا حقيقيًا أم مجرد صدى لرغبتنا في الانتماء؟

ومع ذلك، فإن شواهد المرحلة تدفعنا إلى التأمل في القوى الإيجابية لهذه القرية الرقمية. ففي زمن الأزمات، كما في جائحة كوفيد-19، كانت المجتمعات الافتراضية شريانًا حيويًا للتضامن والدعم. المبادرات التضامنية، الصفوف الدراسية، حفلات الموسيقى، والطقوس الدينية، كلها وجدت ملاذًا في الفضاء الرقمي، بل واكتسبت أنماطًا جديدة من الروحانية والعلاقات العاطفية. هكذا، لم يعد "التقليد" ضدّ "الافتراضي"، بل نشأت هجينة من الممارسات التي تمزج بين الشاشات والطقوس، بين الأيقونات الرقمية ومقامات التواصل الحي.

 

في هذا السياق، يتحول دور التكنولوجيا من مجرد وسيط إلى فضاء للكينونة. لم تعد الوسائط الاجتماعية تُستخدم فحسب للتعبير، بل أصبحت موقعًا يتشكل فيه المعنى الجمعي. هذا ما دفع الفيلسوف الفرنسي «بيير ليفي» إلى ابتكار مفهوم "الذكاء الجمعي"، الذي يرى في الإنترنت بنية فوق-فردية لتجميع وتوليد المعرفة المشتركة، على غرار ما كانت تقوم به المجالس الشعبية في القرى التقليدية. ولكن الفرق هنا أن "الحكيم" لم يعد عجوز الحي، بل هو الخوارزمية التي تقترح لك "من يمكن أن يعجبك" أو "ماذا عليك أن تقرأ".

ومع كل ما في هذا التحول من رُقي وابتكار، فإنه يتطلب يقظة ثقافية وأخلاقية. ذلك أن القرية الافتراضية، خلافًا لنظيرتها التقليدية، ليست محكومة بعُرف اجتماعي واضح، بل بقوانين شركات عملاقة وواجهات ذكية واهتمامات مُجزأة. ومن هنا تأتي الحاجة إلى ما يسميه «جورج زيميل» بـ"الأخلاق اليومية"، أي قدرة الأفراد على ترسيخ قيم التعاون والاحترام حتى في ظل غياب سلطة مركزية واضحة.

لقد بات من الضروري ألا نتعامل مع "الافتراضي" كمهرب من الواقع، بل كامتداد له. فالمجتمعات التي تفشل في خلق توازن بين القرية القديمة ونسختها الرقمية، ستجد نفسها غريبة في الحالتين: بلا جذور في الواقع، وبلا أجنحة في الفضاء الرقمي.

إن إعادة بناء الروح الجماعية اليوم ليست مهمة المعماريين ولا المهندسين فقط، بل مهمة المثقفين والمبرمجين والمربين على السواء. فالقرية التي نصنعها اليوم فوق الألياف البصرية، قد تكون حجر الأساس لمدن أخلاقية مستقبلية، يتشارك فيها البشر ليس فقط المعرفة، بل معنى الحياة ذاته.

وفي النهاية، قد لا نستطيع استرجاع دفء "الدوّار" أو حميمية ليالي السمر، ولكن يمكننا أن نعيد تشكيل أشكال جديدة من الانتماء، وأن نزرع في الفضاء الرقمي شتلات من التضامن، تنمو ببطء ولكن بثبات، لتصنع عالماً لا يقل إنسانية عن الذي فقدناه.

0 التعليقات: