لقد راودتني دائمًا فكرة أن النص ليس مجرد حاوية للمعنى، بل كائن حي يتنفس، يتمدد، يتشعب، ويعيد تشكيل ذاته مع كل قراءة جديدة. ومع توغلي في عوالم السرد الرقمي، ازدادت قناعتي بأن النص لم يعد خيطًا واحدًا يسير في اتجاه مستقيم، بل بات شبكة متداخلة من الإمكانيات والقراءات. من هذا المنطلق، برزت أمامي أهمية نظرية «النص الفائق» (Hypertext) كعدسة نقدية وفكرية تتيح فهماً أكثر تعقيدًا وثراءً للتجارب السردية المعاصرة.
النص الفائق ليس اختراعًا تكنولوجيًا صرفًا، بل هو امتداد لرغبة قديمة في كسر خطية القراءة وتفكيك السلطة الأبوية للنص المغلق. فكما أشار «جورج لاندو» في كتابه المرجعي
"Hypertext: The Convergence of
Contemporary Critical Theory and Technology"، "النص التشعبي: التقارب بين النظرية النقدية
المعاصرة والتكنولوجيا"،" فإن النص الفائق لا يمثل فقط طريقة جديدة في الكتابة،
بل هو إعادة تعريف لماهية النص، بل لماهية القارئ نفسه. القارئ في النص الفائق ليس
مستهلكًا ساذجًا للمحتوى، بل متواطئ ذكي يشارك في إنتاج المعنى من خلال اختياراته،
وعلاقاته، ومساراته الخاصة داخل النص.
لقد بدت لي هذه الثورة
النصية وكأنها تعيدنا إلى جوهر الأسطورة القديمة عن المتاهة: الدخول إلى النص لم يعد
يعني الوصول إلى نهاية حتمية، بل التورط في شبكة دلالية متعددة النهايات، تتغير بحسب
كل نقرة أو رابط. وهذا، في تقديري، قلبَ مفاهيم السرد التقليدي رأسًا على عقب. لم يعد
الكاتب هو الذي يتحكم في إيقاع القصة، بل دخل القارئ شريكًا في التوجيه والتكوين، بل
وحتى في التفسير والتأويل.
ما يثير الانتباه في
هذا السياق هو العلاقة الجديدة بين النص والتقنية. فالنص الفائق لم يكن ليولد لولا
البنية الرقمية التي تتيح الربط والتشبيك والقفز بين الطبقات المعرفية. وهنا نستحضر
كتاب «إسبن آرسيت» “Cybertext: Perspectives on Ergodic Literature”، "النص الإلكتروني:
وجهات نظر حول الأدب الإرجودي" الذي يميز بين النصوص التقليدية والنصوص الإرغودية (ergodic texts) التي تتطلب مجهودًا غير خطي من القارئ لاجتيازها.
إن السرد الفائق يندرج ضمن هذه الفئة الأخيرة، حيث لا يكفي أن تقرأ، بل يجب أن تختار،
أن تتفاعل، أن تعيد توجيه البوصلة داخل تضاريس النص.
وقد شهدت السنوات الأخيرة
ازدهارًا في تجارب سردية رقمية استخدمت النص الفائق كجهاز فلسفي وفني. من بين أبرزها
رواية
«"Afternoon,
a story"« لمايكل
جويس، التي أصبحت علامة فارقة في تاريخ الأدب الرقمي. هذه الرواية لا تُقرأ مرة واحدة،
ولا تُقرأ بالطريقة ذاتها مرتين، إذ تتغير مساراتها وسردياتها بناءً على تفاعل القارئ.
لم أكن أقرأ هذه الرواية، بل كنت أعيشها، كما لو كنت أتنقل بين أبواب حلم متعدد الطبقات.
غير أن الانبهار لا
يجب أن يعمينا عن الإشكالات التي يطرحها هذا النمط السردي. ففي زمن الفائض الرقمي والتشظي
المعرفي، هل يؤدي تعدد الروابط إلى تعميق التجربة أم إلى تفتيتها؟ هل نعيش متعة الاختيار
أم قلق التشتت؟ هناك مفكرون يحذرون من خطر
"اللا-تماسك السردي"، ومنهم «نيكولاس كار»
الذي انتقد في كتابه "The Shallows" "الضحالة"
تأثير الإنترنت على
الدماغ البشري، معتبرًا أن النصوص المترابطة تُضعف من قدرتنا على التركيز والاستيعاب
العميق.
لكنني، برغم هذه التحفظات،
أجد في النص الفائق وعدًا لمستقبل مختلف للسرد. مستقبل لا يُحتكَر فيه المعنى، ولا
يُفرض فيه المسار. مستقبل يُمكن فيه للقارئ أن يكون مؤلفًا ضمنيًا، وللنص أن يكون كائنًا
ديناميكيًا لا يعرف الاستقرار. ففي هذا الفضاء، تتحول الكلمات إلى بوابات، والفقرات
إلى خرائط، والقراءة إلى مغامرة وجودية.
إن النص الفائق لا
يحطم فقط جدران السرد الكلاسيكي، بل يفتح نوافذ جديدة لفهم الذات والعالم. إنه تمرين
على الحرية والاحتمال. وبينما كنت أتنقل بين مقاطع قصة رقمية تفاعلية، شعرت كأنني أعيد
اكتشاف نفسي في المرايا المبعثرة للنص، وأدركت أن السرد، حين يتحرر من خطيته، يقترب
أكثر من طبيعتنا البشرية المعقدة، المتشابكة، المتقلبة.
في عصر تحكمه الخوارزميات
والاختصارات، يظل النص الفائق فرصة لإعادة اختراع علاقتنا باللغة والمعنى. وإذا كنا
قد اعتدنا أن نقرأ نهاية الحكاية في الصفحة الأخيرة، فإن النص الرقمي يعلمنا أن النهاية
ليست سوى بداية أخرى… في مكان آخر… عبر رابط جديد.
0 التعليقات:
إرسال تعليق