شكّل اغتيال القيادي النقابي والسياسي عمر بنجلون يوم الخميس 18 دجنبر 1975 أمام منزله بالدار البيضاء صدمةً سياسية ونقابية عميقة في تاريخ المغرب المعاصر. لقد جرى الاعتداء في لحظة دقيقة من تاريخ البلاد، بعد أسابيع فقط من المسيرة الخضراء، الأمر الذي زاد من وقع المفاجأة والذهول لدى الرأي العام وأحزاب المعارضة والنقابات.
برز المناضل الاتحادي عمر بنجلون كوجه متعدّد الأبعاد: مهندس اتصالات، محامٍ، صحافي، وقيادي بارز في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. تولّى إدارة صحيفة الحزب “المحرر” وكان عضواً في المكتب السياسي للاتحاد منذ مطلع 1975، ما جعله في قلب المواجهة السياسية بين الدولة والمعارضة. إن استهدافه لم يكن موجهاً لشخصه فقط، بل كان يرمز لضرب أحد الأصوات الأكثر إزعاجاً للسلطة ولخصوم اليسار من التنظيمات الإسلامية الناشئة.
عام 1975 كان حافلاً
بالتحولات الكبرى: استرجاع الزخم الوطني عبر المسيرة الخضراء، وتعبئة شعبية ضخمة حول
قضية الصحراء. في المقابل، استمرت القبضة الأمنية الصارمة على عنق المعارضة. هذا التوتر
بين مطلب الانفتاح السياسي وحاجة الدولة إلى الانضباط الوطني شكّل الخلفية التي وقع
فيها الاغتيال، وجعل منه أكثر من جريمة عابرة، بل حدثاً مفصلياً أعاد رسم حدود المجال
السياسي والإعلامي.
أشارت التحقيقات القضائية
إلى ضلوع عناصر من تنظيم “الشبيبة الإسلامية” في تنفيذ عملية الاغتيال. وقد عُدّ هذا
الحدث أولى المحطات التي ظهر فيها العنف السياسي ذي المرجعية الدينية في المغرب، موجهاً
ضد رموز يسارية ونقابية. الدولة بدورها تعاملت مع هذه الظاهرة بشدة، فبدأت مرحلة جديدة
من مراقبة وضبط التنظيمات الإسلامية، وهو ما أسهم لاحقاً في تفكيك الشبيبة وتشتت أعضائها
بين المنافي والمراجعات الفكرية.
عرفت القضية محاكمات
متعدّدة انتهت بأحكام بالإعدام والسجن ضد المنفذين، كما أُدين عبد الكريم مطيع، زعيم
الشبيبة الإسلامية، غيابياً. لكن الأحكام لم تُنه الجدل حول طبيعة القرار وظروف التنفيذ،
إذ ظلّت قراءات كثيرة تربط بين الاغتيال وبين صراع أوسع على الشرعية السياسية والإيديولوجية.
لقد أدى اغتيال بنجلون
إلى تعزيز خطاب “المظلومية الديمقراطية” لدى الاتحاد الاشتراكي، ما زاد من تمسكه بالخط
النضالي المعارض. أما في النقابات، اعتُبر الاغتيال رسالة تهديد للعمل النقابي الحر،
بينما أصبح اسم بنجلون مرادفاً للتضحية من أجل الكلمة الحرة. وعلى المستوى الإعلامي،
تحولت صحيفة “المحرر” إلى رمز للصحافة الحزبية المعارضة في تلك المرحلة، رغم ما تعرضت
له من عمليات حجز متكررة.
أطلقت الدولة بعد الحادث
موجة واسعة من الملاحقات ضد الشبيبة الإسلامية أدت إلى تفكيكها خلال الثمانينيات. لكن
التيار الإسلامي لم يختف، بل أعاد تشكيل نفسه عبر مسارات دعوية وسياسية قانونية، كان
أبرزها بروز حزب العدالة والتنمية لاحقاً. يمكن القول إن اغتيال بنجلون دشّن مساراً
جديداً جعل الإسلام السياسي في المغرب ينخرط تدريجياً ضمن قواعد اللعبة الانتخابية.
مع بداية تجربة العدالة
الانتقالية في المغرب مطلع الألفية الجديدة، عاد ملف الاغتيال ليُطرح ضمن جراح “سنوات
الرصاص”. وقد تناولت هيئة الإنصاف والمصالحة هذا الملف باعتباره جزءاً من الذاكرة السياسية
الجماعية، ومنحت أسرة بنجلون تعويضات رمزية ومادية، غير أن الأسئلة الجوهرية حول كل
تفاصيل الجريمة ومسؤولياتها ظلت مفتوحة، بين ما تقوله المحاكم وما يحفظه التاريخ وما
ينتظره المجتمع من كشف للحقيقة الكاملة.
إن اغتيال عمر بنجلون
لم يكن مجرد حادث سياسي دموي، بل كان نقطة تحوّل كبرى في تاريخ المغرب الحديث. مثّل
الحدث لحظة صراع بين مشروعين: مشروع ديمقراطي اجتماعي يسعى للانفتاح، ومشروع أصولي
يبحث عن مكانه في الحقل السياسي. كما مثّل درساً تاريخياً قاسياً حول خطورة العنف الإيديولوجي،
وحول الحاجة إلى منافسة سياسية سلمية تضمن الاستقرار وتحمي التعددية.
المراجع والمصادر
أرشيف جريدة لو موند
(20 دجنبر 1975).
Lamalif: A
Critical Anthology – JSTOR.
تقارير Human Rights Watch
حول القضية (1980).
تقرير هيئة الإنصاف
والمصالحة
(2005).
دراسة CONNEKT –
Approaches to Extremism (2020).
موسوعة “المحرر” –
مدخل الصحافة الحزبية المغربية.
دراسات حول الشبيبة
الإسلامية ومسارات تحولها.
تحقيق مجلة TelQuel (2012) حول القضية.
مقالات صحفية في موقع Yabiladi (18 دجنبر).
أرشيف لو موند (24
شتنبر 1980) حول المحاكمات.
روابط لمكتبات رقمية
Susan Gilson
Miller, A History of Modern Morocco – Cambridge University Press
Park & Boum,
Historical Dictionary of Morocco – Rowman & Littlefield
0 التعليقات:
إرسال تعليق