الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، أغسطس 16، 2025

المغرب في مرآة عصره الحديث : حكومتا مبارك البكاي وعبد الله إبراهيم الإصلاحية.: (1) ملف من إعداد عبده حفي


حكومة مبارك البكاي، ثم حكومة عبد الله إبراهيم الإصلاحية.

عقب حصول المغرب على استقلاله عن فرنسا (2 مارس 1956) وإسبانيا (7 و27 أبريل 1956)، دخلت البلاد مرحلة تأسيسية حرجة تميزت بالحاجة الملحة إلى الانتقال من إدارة استعمارية إلى بناء مؤسسات دولة مستقلة [1]. وخلال الفترة الممتدة ما بين

1956 و1958، تعاقبت حكومتان بارزتان كان لكل منهما أثره في تحديد ملامح الدولة الجديدة: حكومة مبارك البكاي باعتبارها حكومة الانتقال والبحث عن التوازن، ثم حكومة عبد الله إبراهيم التي رسخت الخط الإصلاحي وسعت إلى بلورة مشروع اقتصادي–اجتماعي وطني [2].

حكومة مبارك البكاي (1956 – 1958)
جاء تكليف مبارك البكاي في سياق توازن دقيق بين القصر ممثلاً في الملك محمد الخامس، والحركة الوطنية بزعامة حزب الاستقلال [3]. كانت مهمته الأولى هي وضع إطار تنظيمي لمؤسسات الدولة بعد رحيل الإدارة الاستعمارية؛ فبادرت حكومته إلى دمج الإدارات الفرنسية والإسبانية في جهاز إداري موحّد، وتوحيد القوات المسلحة من خلال استيعاب عناصر المقاومة وجيش التحرير، إلى جانب تأسيس الدبلوماسية المغربية المستقلة [4].
غير أن التحديات كانت كبيرة؛ فالاختلاف في الرؤى بين القصر وحزب الاستقلال ظهر سريعاً، كما واجهت الحكومة صعوبة في بسط نفوذها على المناطق التي كانت تحت الإدارة الإسبانية [5]. وعلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي، ورثت الدولة بنية تحتية محدودة ومجتمعاً مثقلاً بإرث الاستعمار، وهو ما جعل جهود الإصلاح الأولى محدودة ومكبلة بصراعات النخب وتردد المرحلة الانتقالية [6].

التحول نحو الحكومة الإصلاحية لعبد الله إبراهيم (1958 – 1960)
مع تفاقم الخلافات داخل حزب الاستقلال وبين هذا الأخير والقصر، قدّم البكاي استقالته، ليُكلَّف عبد الله إبراهيم بتشكيل ما عُرف في الأدبيات السياسية بالحكومة الإصلاحية [7]. انطلق هذا الفريق الحكومي من رؤية تقوم على تعزيز دور الدولة في الاقتصاد، وتطوير الصناعة الوطنية، ومأسسة التخطيط، وتوسيع التعليم العمومي [8]. كما سعى إلى تقليص التبعية الاقتصادية لفرنسا من خلال مراجعة الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية [9].
داخليا، واجهت الحكومة مقاومة من الاتجاه المحافظ داخل القصر وبعض أجنحة حزب الاستقلال، كما ظهر توتر مع الاتحاد المغربي للشغل نتيجة تصاعد المطالب الاجتماعية [10]. أما خارجياً، فانفتحت الحكومة على معسكرَي الشرق والغرب في إطار سياسة عدم الانحياز، سعياً إلى تحقيق استقلالية القرار الدبلوماسي [11].

صراع مبكر حول طبيعة النظام السياسي
تكشف هذه المرحلة أن الصراع لم يكن مجرد صراع أشخاص أو أحزاب، بل صراعاً حول طبيعة الدولة الجديدة: هل هي ملكية برلمانية تكون فيه الحكومة المنتخبة فاعلاً مركزياً في اتخاذ القرار، أم ملكية تنفيذية تحتفظ فيها المؤسسة الملكية بالمبادرة الاستراتيجية؟ [12]. حكومة البكاي عبّرت عن تسوية قائمة على التوافق، فيما حاولت حكومة عبد الله إبراهيم ترجمة خيار إصلاحي يعطي للمؤسسات المنتخبة هامشاً أوسع [13].
لكن مقاومة القوى التقليدية، وتصدع حزب الاستقلال، إلى جانب توتر العلاقات مع فرنسا، أدت إلى إسقاط التجربة الإصلاحية. ففي 1960 قرر محمد الخامس حل الحكومة وتولي رئاسة الوزراء بنفسه، لتبدأ مرحلة جديدة تتسم بتعزيز صلاحيات المؤسسة الملكية واستمرار الإصلاح تحت إشراف مباشر للقصر [14].

خاتمة
لقد شكّلت فترة 1956–1958 مختبَراً سياسياً للمغرب المستقل، حيث تبلورت فيها ملامح التوازن بين الشرعية التاريخية للملكية والمطالب الإصلاحية للحركة الوطنية. وإذا كانت حكومة البكاي قد مثلت مرحلة التأسيس والتوافق، فإن حكومة عبد الله إبراهيم دشنت النقاش حول السيادة الاقتصادية، ودور الدولة في التنمية، ومكانة المؤسسات المنتخبة في هندسة القرار السياسي، وهي أسئلة ستظل حاضرة في تاريخ المغرب لعقود لاحقة [15].

المراجع

[1] عبد الكريم غلاب، الحركة الوطنية المغربية، دار النشر المغربية، 1995
[2] عبد الله العروي، مجمل تاريخ المغرب، المركز الثقافي العربي، 2019
[3] الأرشيف الوطني المغربي، وثيقة جلسة البرلمان 1956
[4] حميد بوشيخي، “مسار بناء الدولة الحديثة بعد الاستقلال”، المجلة المغربية للتاريخ المعاصر، 2008
[5] Henri Terrasse, Le Maroc après l’indépendance, Paris, 1961
[6] عبد الهادي التازي، ملامح من تاريخ المغرب الحديث، مطبعة المعارف، 2002
[7] محمد ضريف، الحياة السياسية في المغرب بعد الاستقلال، منشورات كلية الحقوق، 2016
[8] A. Oualalou, Économie marocaine et politiques publiques, Rabat, 1985
[9] تقرير وزارة الاقتصاد المغربية، “مراجعة الاتفاقيات مع فرنسا”، 1959
[10] إبراهيم بونو، الحركة النقابية بالمغرب، الرباط، 1998
[11] Mohamed Kenbib, Le Maroc dans l'ordre international, Paris, 1992
[12] عبد المجيد بنجلون، مستقبل النظام السياسي المغربي، دار إفريقيا الشرق، 1981
[13] J. Waterbury, Commanding Right and Forbidding Wrong in Moroccan Politics, Princeton, 1970
[14] الأرشيف الملكي المغربي، خطاب محمد الخامس في 20 مايو 1960
[15] عبد القادر الشاوي، من السلطة إلى الدولة: قراءة في تجربة الاستقلال، منشورات الزمن، 2010

يتبع



0 التعليقات: