لم يعد الشِّعر بالنسبة إليَّ مجردَ بناء لغوي محكم أو لحظة وجدانية تُسْتدرج من أعماق الذاكرة، بل صار – في عصر الوسائط الجديدة – مشروعاً معرفياً مركَّباً يتقاطع فيه الخطاب الجمالي مع النسيج الرقمي.
لقد أزاح ظهور “الشعر الرقمي” الحدود التقليدية التي لطالما حكمت علاقة اللغة بالمعنى، ليعيد تشكيل القصيدة بوصفها «كائناً تفاعلياً» يعيش داخل فضاء لا نهائي من الترابطات، تماماً كما وصفه Florian Cramer في كتابه *Words Made Flesh* "كلمات من لحم " باعتباره «سلوكاً حاسوبياً قابلاً للتأويل الجمالي».
إنّ انفتاح القصيدة
على هندسة الأكواد والتطبيقات التفاعلية جعلني أستعيد مقولة كاترين
هايلس
بأن «الكتابة لم تعد
تقتصر على الحرف، بل أصبحت هندسة حسّية تتداخل فيها الحركات والصور والتصميمات». قد
يبدو هذا التحول لدى البعض محاولةً لتجريد الشِّعر من جوهره اللغوي، لكنه في الحقيقة
يكشف عن مرحلة جديدة من الوعي الإبداعي؛ مرحلة تتجاوز مجرد التعبير إلى بناء بيئة رمزية
يتحرّك فيها القارئ كما لو أنّه مشارك في توليد النص، لا مجرد متلقي له.
ولعلّ التجارب التي
قدّمها
mez breeze "ميز
بريز" في مجال "شعرية الكلمات المشفرة"
“poetic
codeworks” خير مثال
على الكيفية التي أُعيد فيها تعريف القصيدة، حيث تصبح اللغة مزيجاً من الشيفرة البرمجية
والمجاز، ويصبح المعنى نتيجةَ تفاعلٍ بين الشاعر والقارئ والآلة في آن واحد. هنا يتبدّى
البُعد الفلسفي لهذه التحوّلات: هل نستطيع أن نتحدث بعد اليوم عن “سلطة المؤلف” في
ظل النصوص القابلة للتعديل والتوسّع عبر الزمن؟ وهل ما زال من الممكن الاحتفاظ بفكرة
“القصيدة المكتملة” بينما يترك الشاعر فجوات تسمح للمستخدم بأن يدوّن أجزاء من النصّ
بنفسه؟
لا يمكن فهم هذه النقلة
النوعية دون العودة إلى النقاشات التي أثارتها كاترين
هايلس منذ كتابها * الأدب
الإلكتروني*، حين أكدت أنّ «القصيدة الرقمية
ليست مجرّد تحديث للقصيدة الورقية، بل نوعٌ جديد من التجربة المعرفية». ومن هنا، أجد
أن الشعر الجديد لم يكتفِ بإضافة وسائط جديدة مثل الفيديو والصوت، بل قام بإعادة تعريف
الحيز النصي بالكامل. فالنصّ صار يُقرأ بلمسة الإصبع، وتُزيح الصورة جزءاً من السرد،
ويُستكمل البيت الشعري بتفاعل القارئ على الشاشة كما في تجربة “Poem.exe” التي عرضها Electronic Literature Organization عام 2023.
هذا التحوّل جعل موضوع
“الزمن الشعري” نفسه عرضة لإعادة النظر. فإذا كانت القصيدة الورقية تُقرأ في خطّ زمني
واضح يبدأ من السطر الأول وينتهي في الأخير، فإنّ القصيدة التفاعلية تكسر هذا الخطّ،
وتُتيح مسارات زمنية متعددة، على غرار ما قام به
Jim Andrews في عمله “Nio” الذي يقترح سلسلة احتمالات تَحكم مسار القراءة
تبعاً لاختيارات المستخدم.
ولأنني أؤمن بأن كل
تحوّل جمالي يرتبط بتأثيرات اجتماعية وسياسية، أجد من الضروري التنبيه إلى أن القصيدة
الرقمية ليست مجرد لعبة شكلية؛ إنها إعادة امتلاك لسلطة القول في فضاء تتلاشى فيه مراكز
السلطة التقليدية. فالمنصات الالكترونية سمحت لشعراء من الهوامش الجغرافية والثقافية
بأن يشاركوا في إنتاج مشهد شعري عالمي، مثلما حصل مع مجموعة من الشعراء المغاربة الذين
قدّموا تجارب رقمية ضمن مشروع “المختبر المتوسطي للأدب الرقمي”، وشاركوا سنة 2024 بمعرض
تفاعلي في برشلونة عرضَ نصوصاً باللغتين العربية والإسبانية.
إلا أن هذا الواقع
الجديد يطرح أيضاً تحديات أخلاقية، أبرزها مسألة “الملكية الأدبية” في ظل قابلية النصوص
للتعديل والنسخ المفتوح. وقد عبّر الشاعر الأمريكي John Cayley عن هذه الإشكالية حين كتب في *Rhizomes* أن «القصيدة الرقمية لا تنتمي لأحد بشكل مطلق؛
إنها حالة أدائية مفتوحة قد تتحوّل إلى نص مغاير تماماً بعد مرور دقائق على نشرها».
ختاماً، أشعر أنّ الشعر
في زمن الوسائط الجديدة لم يفقد جوهره، بل استعان بالتكنولوجيا ليُعيد اكتشاف ذاته
في أشكال غير مسبوقة، تماماً كما استعان الشاعر العربي القديم بموسيقى الإنشاد ليُفعّل
المخيال الجمعي. الفرق الوحيد أنّ «المنبر» في عصرنا أصبح شاشة مضيئة، وأنّ «المتلقي»
تحوّل إلى مُساهم في خلق النص، بطريقة تشبه – إلى حدّ بعيد – تلك اللحظة الصوفية التي
يذوب فيها الشاعر داخل قصيدته، ليستحيل الاثنان كياناً واحداً.
**مراجع**
* Katherine Hayles, *Electronic Literature*, MIT Press,
2008.
* Florian Cramer, *Words Made Flesh: Code, Culture,
Imagination*, Rotterdam, 2005.
* John Cayley, “The Code is not the Text (Unless it is the
Text)”, *Rhizomes*, 2012.
* Mez Breeze, *Poetic Codeworks*, Electronic Literature
Collection, Vol. 4, 2022.
0 التعليقات:
إرسال تعليق