الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، أغسطس 13، 2025

عناق الحواس: نحو أدب يتجاوز النصوص: عبده حقي


لم تعد الحكاية في زمننا المعاصر أسيرة الورق والحبر، ولا قيد الحروف الصامتة، بل غدت كائناً متعدد الحواس، ينفلت من حدود النص ليعانق السمع والبصر واللمس وحتى الشم، في تجربة سردية متكاملة تفتح أبواباً جديدة للتلقي والفهم.

فـ"السرد متعدد الحواس" أو Multisensory Narratives لم يعد مجرد اتجاه تجريبي في الأدب الرقمي، بل تحول إلى حقل معرفي وفني تتقاطع فيه السيميائيات مع علوم الإدراك الحسي والتكنولوجيا التفاعلية، كما تبرزه أعمال الباحثة كاثرين هايلز في «Writing Machines»  حين دعت إلى قراءة الأدب بوصفه شبكة من الوسائط المتداخلة، لا نصاً أحادياً مغلقاً.

تاريخياً، لم يكن الأدب خالياً من الأبعاد الحسية؛ فالشعر الجاهلي مثلاً لم يكتفِ بوصف المكان، بل استدعى رائحة المطر، وصوت الريح، ولمس الرمل الحار، وهي إستراتيجية جمالية تعكس وعياً مبكراً بقدرة الحواس على تثبيت الذاكرة السردية. إلا أن القفزة النوعية اليوم تكمن في توظيف تقنيات الواقع الافتراضي والمعزز، والمجسات التفاعلية، والموسيقى المصاحبة، لتوليد فضاء قرائي يعيش فيه المتلقي النص كما لو كان مشهداً محسوساً لا مجرّد كلمات. وفي هذا الإطار، نجد تجارب أدبية رقمية مثل «The Whale Hunt» " صيد الحيتان " لجوناثان هاريس، التي تمزج بين السرد الفوتوغرافي والتسجيلات الصوتية وخرائط التفاعل الزمني، بحيث تتحول القصة إلى رحلة حسية كاملة.

إن التحول من النص الخطي إلى التجربة الحسية المتعددة لا يغيّر وسيلة العرض فحسب، بل يعيد تشكيل العلاقة بين المؤلف والقارئ. فالقارئ في هذه التجارب ليس متلقياً سلبياً، بل شريكاً في البناء الدلالي، يتحكم في مسار السرد، ويختار الزوايا التي يستكشف منها العالم التخييلي. وهنا تبرز مقاربة "النص المتشعب" (Hypertext Narrative) كما طورها جورج لاندو، حيث تتعدد المسارات، وتتشظى البنية التقليدية للقصة، لتتيح مستويات متزامنة من الحضور الحسي والمعرفي.

تؤكد الدراسات المعرفية، مثل أبحاث مارك جونسون في

«The Meaning of the Body، " معنى الجسد " أن الدماغ يعالج المعطيات السردية على نحو أعمق عندما تكون مدعومة بإشارات حسية متعددة، إذ تتضاعف الروابط العصبية بين المعلومة والذاكرة العاطفية. ومن هنا يمكن القول إن السرد متعدد الحواس لا يكتفي بإثراء المتعة الجمالية، بل يرسخ الأثر المعرفي للنص، ويعيد صياغة ما يمكن تسميته بـ"اقتصاد الانتباه" في زمن تتنازع فيه الصور والمعلومات انتباه القارئ.

 

لكن هذه الثورة الجمالية تثير أيضاً أسئلة نقدية: هل يؤدي الإفراط في المؤثرات الحسية إلى تراجع القيمة اللغوية للنص، أم أنه يفتح أفقاً جديداً للبلاغة تتجاوز الكلمة إلى الإيماءة واللون والإيقاع؟ وهل يتحول الأدب حينها إلى شكل من السينما التفاعلية، أم يظل محتفظاً بجوهره النصّي حتى وسط العاصفة البصرية والسمعية؟ هذه الأسئلة تجد صدى لها في النقاشات الأكاديمية الحديثة، خصوصاً في المجلات المتخصصة بالأدب الرقمي مثل «Electronic Book Review، التي ترى أن تعددية الحواس ليست بديلاً عن الكلمة، بل وسيلة لتكثيف طاقتها التعبيرية.

إن السرد متعدد الحواس ليس مجرد تجربة جمالية معاصرة، بل هو أيضاً تمرين فلسفي على إعادة تعريف ماهية الأدب في عصر ما بعد الكتاب الورقي. إنه مساحة يتقاطع فيها الحسي والمعرفي، الفردي والجماعي، الواقعي والمتخيل، ليولد نصاً مفتوحاً على احتمالات لا نهائية. وكما أن القصيدة قد تكون أحياناً لوحة، والرواية قد تتحول إلى مسرح، فإن المستقبل يَعِد بنصوص تُشمّ وتُلمس وتُسمع بقدر ما تُقرأ، في رحلة قد تجعل الأدب أقرب ما يكون إلى عناق شامل بين الحواس والخيال.

0 التعليقات: