حين أتأمل المشهد الثقافي في بلادنا، أجد نفسي مضطراً إلى القول بصرامة: إن المثقف الذي يرفض التفاعل مع أحداث وطنه، أو يلوذ بالصمت والتأمل العقيم، ليس سوى مثقفا زائفا. بل إنه يساهم، بقصد أو بغير قصد، في تكريس البؤس السياسي والاجتماعي والعدمية الساقطة. فالثقافة لا قيمة لها إذا لم تتحوّل إلى أداة نقد ووسيلة مساءلة. وأي ادعاء بالحياد أو الانعزال ليس سوى خدعة أيديولوجية تهدف إلى تبرير الجبن أو حماية الامتيازات.
لقد درجت النخب العربية
على الهروب إلى الملاذات المريحة: التنظير في الفراغ، إنتاج النصوص الغامضة، أو الارتماء
في حضن السلطة. كل هذه الخيارات، في المحصلة، تصب في خدمة استمرار الوضع القائم. ومن
هنا، فإن الحديث عن "مثقف حرّ" أو "مثقف ملتزم" لا معنى له إذا
لم يُترجم إلى مواجهة صريحة مع الاستبداد والفساد والتهميش.
دعونا نتوقف عند مقولة
يكررها كثيرون: "المثقف ليس ملزماً بتصريف السياسة". هذه الجملة، في رأيي،
تعبير عن تواطؤ مستتر. فالصمت أمام القمع ليس حياداً، بل مشاركة سلبية فيه. إن المثقف
الذي يسكت حين تُسحق حرية التعبير أو تُهدر حقوق المواطن، إنما يمنح الشرعية للصمت
الجماعي، ويُفرغ الثقافة من مضمونها.
إنني أرى أن أخطر أشكال
الخيانة ليست تلك التي يمارسها مثقف مأجور يكتب بأمر السلطة في الداخل أو الخارج، بل
تلك التي يمارسها مثقف صامت يبرر انسحابه بحجج "النقاء الفكري" أو
"التفرغ للبحث". فالأول على الأقل يُعرف موقعه كمدافع عن السلطة، أما الثاني
فيمارس تضليلاً مزدوجاً: يتظاهر بالاستقلالية بينما يترك الساحة للرداءة والانحطاط.
لا بد من الاعتراف
بأن السلطة هي أخطر امتحان للمثقف. كثيرون انجرفوا نحوها بدافع الخوف أو الطموح الشخصي.
لكن الأدهى من ذلك أن السلطة نفسها نجحت في إعادة تشكيل صورة المثقف بما يخدمها: من
ناقد اجتماعي إلى "خبير" يُستدعى لتبرير السياسات، أو "كاتب رسمي"
يتحدث بلغة مدجنة.
إن المثقف الحقيقي،
كما أفهمه، ليس عدواً أعمى للسلطة، لكنه أيضاً ليس بوقاً لها. وظيفته النقد، والمساءلة،
وفضح التناقضات. وإذا فقد هذه الوظيفة، فقد مبرر وجوده.
حين يغيب صوت المثقف
الجاد، تتضخم الشعبوية وتزدهر. إن الفراغ الذي يتركه المثقف المنسحب يملؤه إعلام سطحي
أو دعاة دينيون أو أبواق سياسية. وهكذا يتحول المجال العمومي إلى سوق للشعارات والانفعالات.
مسؤولية المثقف هنا واضحة: أن يمنع هذا الانحدار عبر تقديم خطاب عقلاني، رصين، يكشف
الوهم ويفضح التضليل.
لكن ما نراه في كثير
من الأحيان هو العكس: مثقفون يستسلمون لموجة الشعبوية نفسها، يكتبون نصوصاً متوترة
بلا مضمون، أو يركبون موجة "الجماهير" دون أي مساءلة نقدية. وهذا، في الجوهر،
خيانة أخرى.
إن التفاعل مع أحداث
الوطن ليس خياراً ثانوياً، بل هو شرط لبقاء الثقافة نفسها. الثقافة التي تنفصل عن واقعها
تتحول إلى زخرفة لغوية أو فولكلور فكري. إنني أؤمن أن أي نص فلسفي أو أدبي لا يترك
أثراً في وعي الناس، ولا يسهم في تفكيك الواقع، هو نص ميت منذ الولادة، مهما كان جمالياً.
حين كتب طه حسين عن
التعليم، لم يكتب نصاً جمالياً بل نصاً قتالياً يفضح التفاوت الطبقي. وحين كتب فرانتز
فانون عن الاستعمار، لم يكن يكتب أطروحة أكاديمية بل بياناً للتحرر. وكذلك الجابري
حين حلل "العقل السياسي العربي"، لم يفعل ذلك لإشباع فضول أكاديمي، بل لفضح
بنية الاستبداد المتجذرة فينا. هذه أمثلة تؤكد أن المثقف الحق لا يكتفي بالتحليل، بل
يحوّله إلى أداة مواجهة.
لنكن صرحاء: الكثير
من المثقفين العرب يختبئون وراء خطاب "التعالي عن السياسة" وكأنهم بذلك يحافظون
على استقلاليتهم. لكن هذه الاستقلالية المزعومة مجرد وهم. ففي اللحظة التي يختار فيها
المثقف الانسحاب، يكون قد اختار عملياً الاصطفاف مع سلطة الأمر الواقع.
إنني أرفض تماماً هذا
التبرير. المثقف ليس نبياً منزهاً، ولا كائناً يعيش فوق المجتمع. إنه ابن واقع محدد،
محكوم بشروطه، وعليه أن يواجه تناقضاته. كل محاولة للهروب من هذه المواجهة ليست إلا
شكلاً من أشكال الجبن الفكري.
إن وظيفة المثقف الأساسية،
في رأيي، هي فضح البنى الأيديولوجية التي تُخفي القهر وراء أقنعة براقة: الدين حين
يُستخدم لتبرير الاستبداد، القومية حين تتحول إلى ذريعة لقمع الحريات، أو حتى الديمقراطية
حين تُستعمل لتغطية احتكار السلطة. المثقف هو الذي يُعرّي كل هذه الأقنعة ويكشف زيفها.
ومن هنا، فإن أي مثقف
لا يتفاعل مع أحداث وطنه لا يكتفي بالانسحاب، بل يتنازل عن دوره التاريخي. إنه يُفرغ
الثقافة من قوتها النقدية، ويحرم المجتمع من إمكاناته التحررية.
إن القول الفصل هو
التالي: لا خير في مثقفين عديمي التفاعل مع أحداث وطنهم، لأنهم جزء من المشكلة لا جزء
من الحل. صمتهم ليس موقفاً بريئاً بل خياراً أيديولوجياً يخدم استمرار القمع والتخلف.
وإذا أراد المثقف أن يكون جديراً بهذا الاسم، فعليه أن ينخرط، أن ينتقد، أن يزعج، أن
يفتح الجروح كي تُشفى.
المثقف الذي لا يلتزم
بذلك هو مجرد شاهد زور، أو متواطئ صامت، أو أداة مُدجَّنة في يد السلطة. وهؤلاء، مهما
علت شهرتهم، سيُطويهم التاريخ كأمثلة على الفشل والجبن. أما الذين تفاعلوا بصدق مع
قضايا شعوبهم، فقد ضمنوا مكانتهم في الذاكرة الجماعية، لا لأنهم كانوا أذكى أو أبلغ،
بل لأنهم أدركوا أن الثقافة بلا التزام ليست سوى فراغ.
0 التعليقات:
إرسال تعليق